تصطفّ صور رؤساء الجمهورية السابقين في الردهة المؤدية إلى مكتب رئيس الجمهورية في قصر بعبدا. من الرئيس الأول بشارة الخوري إلى الرئيس الحالي العماد ميشال عون. ثمانية وسبعون عامًا تفصل بين عهد جمهورية الاستقلال وجمهورية العهد القوي كما أريد له أن يكون. تصطف الصور الثلاث عشرة في خطّ مستقيم لا يكسرها سوى تعرجات الأحداث التي طبعت العهود الثلاثة عشر. الصور الماثلة أمام أيّ زائر توفّر أجوبة بحسب نوع السؤال وسائله. إذا ما نظرت إلى صورة الرئيس بشارة الخوري قد يسأل باحث، هل حسم التاريخ إرثه كأول رئيس جمهورية للاستقلال؟ ام هو أول وآخر رئيس جمهورية يقدّم استقالته؟ الرئيس كميل شمعون هل يذكر التاريخ أنه في عهده أعطيت المرأة الحقّ في الاقتراع؟ أم سيذكره التاريخ على أنه أول رئيس يستدعي تدخلاً خارجياً لدعم عهده؟ الرئيس فؤاد الشهاب باني الدولة الحديثة؟ أم رئيس الجمهورية الذي أطلق يد المكتب الثاني في الحياة السياسية اللبنانية؟ تتنقل هذه الثنائيّات حتى الوصول إلى عهد الرئيس الحالي.
في مكتبه في القصر، أعرب رئيس الجمهورية عن خشيته من الخطر المحدق بالبلاد، على الكيان حتى. حين سأل ذات أيلول “الى أين نحن ذاهبون في حال لم تشكّل الحكومة؟” وأجاب “إلى جهنم” لم تكن زلة لسان. واستعاد عون شريطاً من الذكريات، يبدأ بمعركته الأخيرة قبل المنفى مرورًا بمقابلته الشهيرة في باريس مع ماغي فرح حين حذّر من الانهيار الاقتصادي والمالي وصولاً إلى ما يعدها المعركة الأخيرة وهي التدقيق الجنائي.
وكرّر الرئيس ما ردده مراراً وما يؤمن هو به حقاً “سأسلم بلداً أفضل من الذي استلمته” وأضاف “لكن أخشى أن الكلفة ستكون مرتفعة جدًا ربما الفوضى قبل ذلك”. على من اللوم إذًا؟ “على المنظومة” يجيب. هي المنظومة نفسها التي يقول عون إنه واجهها كاملة ذات تشرين عام تسعين وأدّت الى نفيه، ثم عاد منتصرًا عليها، مواجهًا لها، ثم نسج التسويات معها. نسأله إذا ما كان يعد معركة التدقيق الجنائي ألفين وواحد وعشرين بمثابة معركة التحرير عام تسعة وثمانين. “بمعركة عام تسعة وثمانين واجهت المنظومة كاملة ورعاتها الاقليميين والدّوليين، معركة التدقيق الجنائي هي بالمرتبة نفسها، وانضاف الى منظومة الـتسعة والثمانين وأركانها، المنظومة المالية التي ترسخت اليوم. معركة التدقيق الجنائي هي معركة تحرّر وليست حرب تحرير، والتحرّر أشد صعوبة من التحرير”.
وإذا كانت حرب التحرير وما حسم بعدها في تشرين أدّت الى نفي العماد، رئيس الحكومة العسكرية آنذاك، ما الذي يضمن عدم تكرار نتيجة شبيهة في عهد رئيس الجمهورية الحالي؟ هنا يرسم عون خطاً أحمر من غير المعلوم إذا ما كان أمنيّة أم يقيناً، “لا يمكن التراجع عن هذه المعركة” يضرب يده على الطاولة “والتدقيق رح يصير”.
واسترجع عشرات القوانين التي تقدّم بها ودفنت في أدراج المجلس النيابي، يركز على مشروع قانون بالتحديد، قانون إنشاء محكمة خاصة للجرائم المالية التي تشمل صلاحيتها الجرائم الواقعة على الأموال العمومية الذي تقدّم به عام الفين وثلاثة عشر. ويمثّل القانون هذا تحديدًا بالنسبة إلى رئيس الجمهورية تجسيدًا لما يعتبره عقبات وضعت في وجهه نائباً ورئيس تكتل الى أن تحوّلت الى أصفاد كبلت رئاسته.
لكن الجالس أمامنا رئيس الجمهورية، سبق أن وصف حين كان فقط جنرالاً منفياً عائداً، أنه “تسونامي”، خاف كثر من الجرف القادم معه. “بس رجعت بالـ2005 قالو عني تسونامي صحيح وقدرت أقضي على جزء كبير من الاقطاع السياسي وما بقى إلا كم واحد.. نسأل مقاطعين الرئيس “هل تقصد بذلك أن ميشال عون التسونامي كبلته رئاسة الجمهورية”؟ أجاب الرئيس، “ما كنت متخيل أنه رح كون مكبّل هلقد، ما كنت متوقع انه المنظومة هلقد مطوقة ومحصنة، حتى بالقضاء وهي المرجع الذي اعتمدناه لخوض معاركنا، تبين أنها حلقات، حتى لو تجاوزنا حلقة واحدة، نصطدم بعقبات وحلقات كثيرة”. يحمل حديث الرئيس في طياته شيئًا من الندم، وعليه كان لا بد من السؤال انطلاقاً من الإقرار بأن الرئاسة كبلته. “بين الجنرال التسونامي المتحرّر من كل قيد، والرئيس المكبل هل من مفاضلة”؟ يجيب الرئيس “من فترة قلتلها لمرتي يا ريت ورتت بستان جدي وما عملت رئيس جمهورية”. بعيداً عن الأمنيات وبالعودة إلى الواقع وردهة القصر.
وجلس رئيس الجمهورية في مكتبه وصورته معلقة على الحائط، لا بد أنه سأل ويسأل السؤال نفسه وهو ينظر الى صور أسلافه. كيف سيحكم التاريخ على إرثي؟ كيف سيذكرني العابر بعد سنوات في الرّدهة نفسها وهو ينظر الى صورتي المعلقة على الحائط؟ هل يبقى الحائط حتى؟ هل يبقى القصر نفسه، هل تبقى الجمهورية نفسها؟
هل يكون عهد الرئيس ميشال عون عهد أكبر انهيار اقتصادي واجتماعي يطال البلاد منذ تأسيسه، أم سيكون عهد انطلاقة جديدة، لجمهورية لم تتضح معالمها بعد، حتى لساكن قصرها؟