كتبت لوسي بارسخيان في صحيفة نداء الوطن:
للأسبوع الأخير الذي يسبق عيد الفصح في مدينة زحلة رائحة مختلفة. هي رائحة الكعك بحليب الذي اقترن “بالعيد الكبير” كجزء من نمطية إجتماعية، تستمر طيلة أسبوع الآلام حتى ذكرى يوم القيامة. في ظل إصرار الأجيال التي بلغت الستين وما فوق، على تحضير الكعكة في البيت عجناً وتكعيكاً وخبزاً كـ”بركة” لا يتخلون عنها حتى في أصعب الظروف. فيما درج من هم أصغر سنّاً على شرائه جاهزاً من عناوين ثابتة، تحوّل اسم كعك الحليب لديها “كعك زحلة” وبات متوفراً على مدار السنة، وبالمواصفات نفسها.
إلا أنّ كعكة هذه السنة تحلّ ضيفاً ثقيلاً على جيوب فارغة. حيث باتت كلفة الكيلو الجاهز في السوق تتراوح بين 25 و35 ألف ليرة، بعدما تدرّج إرتفاع سعره من 12 ألف ليرة الى 20 ألف ليرة في السنة الماضية. فيما لا تزال بورصة هذا الكعك تبشّر بارتفاعات اخرى، يتوقّعها مصنعوها، وخصوصاً مع خضوع جميع مكونات هذه الكعكة لتقلبات سعر صرف الدولار في الأسواق اللبنانية.
لا مكونات إستثنائية في صناعة “كعكة زحلة” وإنما هي عبارة فقط عن خلطة الطحين مع الحليب، الذي استبدل الطازج منه بالبودرة، مع الخميرة والسكر والمحلب، والأهمّ السمنة البلدية، أو السمن الحموي، وهنا الكلفة الاساسية.
قديماً يقال أنّ هذه المواد كانت تتكدّس في منازل الزحليين بسبب فترة الصوم الطويلة، فعمدوا لتحويلها كعكاً، يمكن حفظه في المنازل أسابيع طويلة، ويشكل قوتاً مغذّياً للعائلات الريفية الفقيرة. إلا أنه مع إرتفاع أسعار المواد الأساسية التي يتكوّن منها كعك زحلة، تراجعت قدرة العائلات الفقيرة على شرائه أو حتى صنعه منزلياً.
بحسب إحدى السيدات فإن الكلفة الأكبر للكعكة هي في “مجمع” السمن، الذي وصل سعره في السوق الى 300 ألف ليرة وما فوق هذا العام.
وفي السمن وجودته، يكمن سرّ نجاح كعكة زحلة وطعمها اللذيذ. ومن هنا يؤكّد مصنّعو كعك زحلة أنّ الجودة هي أولويتهم بصرف النظر عن السعر، فمن يريد أن يشتري الكعك سيشتريه، وإنما قد ينقص من كميات التزوّد به، وهمّه الوحيد ألّا يتغيّر طعمه.
لا يتوقّع مصنّعوه في المقابل تراجعاً في بيع كعكة العيد لهذه السنة. برأيهم “الناس بدها تعيد” والعيد بزحلة لا يمكن أن يمرّ من دون “الكعك بحليب”، وبالرغم من إرتفاع ثمن كيلو الكعك، يؤكّدون أن أرباحه قضمها السعر المتقلّب صعوداً لمواده الأولية.
في المنازل لا تبدو أعباء الكلفة أقلّ وطأة. ومن هنا يذكر العديد من السيّدات أنهنّ توجّهن لتقليص الكميات التي كنّ ينتجنها. وسيكتفين هذه السنة ببضعة كيلوات، تسقط من حسابات ربّات البيوت قسمة إنتاجهن على أولادهن والأحفاد الموزّعين على عدة منازل، ولكنها تبقي رائحة الكعك وبركته حاضرة، وتضفي ولو بهجة صغيرة على الأجواء القاتمة السائدة منذ العيد الماضي.
وكعكة العيد في زحلة تشكل جزءاً من طقوس “زحلاوية” بقيت سائدة حتى ما قبل سنوات قليلة. حيث كانت التحضيرات ليوم العيد تمتد طيلة أسبوع الآلام. فتعزّل السيدات بيوتهن ويعدن ترتيبه لإستقبال الزوار. كما تخرج السيدات أطقم الـ LIQUEUR، ويحضرن الشوكولا المصنّع على شكل بيضة مع تلوين البيض الطازج لـ”المفاقسة”.
في يوم العيد تلازم السيدات المنازل بكامل اناقتهن، فيما يخرج الرجال مع أولادهم “الذكور” تحديداً لمعايدة الأقارب والاصدقاء، وإذا زار أحدهم منزلاً يصبح ربّ هذا البيت ملزماً بردّ المعايدة له فوراً في منزله. ولا تستغرق المعايدة أكثر من عشر دقائق، فتستبدل القهوة بالـ LIQUEUR، الذي يتبعه مباشرة ضيافة الشوكولا ومفاقسة البيض والكعك فيعود الرجال والأولاد بأكياس مليئة بها.
تخلّى الجيل الجديد تدريجياً عن هذه العادات، وإستبدل برنامج هذا اليوم بلقاءات عائلية على موائد غنية بالأطباق، أو في إجازات خارجية. إلا أنّ ظروف اللبناني المعيشية حالياً، معطوفة على تداعيات فيروس “كورونا”، تدفعه بعد التنازل عن العادات القديمة لإسقاط رغباته الحديثة. ليبقى “كعك العيد” في المدينة، الثابت الوحيد في هذا اليوم. فأيّاً كان ثمنه ستفوح رائحته بالمنازل، حتّى بعد أن تضاءلت كمياته فيها.