Site icon IMLebanon

الإتفاق الصيني – الإيراني وانعكاسه على لبنان

كتب مسعود معلوف في “الجمهورية”:

في إطار الخلافات والنزاعات القائمة بين الولايات المتحدة وبين كل من الصين وإيران وروسيا، وبعد محاولات الرئيس جو بايدن إعطاء انطباع بصلابته في معالجة هذه الأمور عبر مواقف ورسائل مباشرة وجّهها الى كل من هذه الدول الثلاث، بدأت ردات الفعل تتوالى في مواجهة بايدن الذي أصبح في وضع دفاعي بعد أن أثارت مواقفه الهجومية اهتماماً كبيراً.

الردّ الروسي جاء بسرعة على لسان الرئيس فلاديمير بوتين الذي انتقد الولايات المتحدة والرئيس بايدن بشكل لاذع ودعاه الى مناظرة علنية متلفزة، واستدعى سفيره من واشنطن في اليوم نفسه للإستشارة، وهذا مؤشر دبلوماسي واضح لسوء العلاقة بين البلدين، بينما تجسد الردّ الصيني باتفاقية طويلة المدى مع إيران، الخصم الأكبر للولايات المتحدة، ما يشكل تحدياً قوياً لهذه الأخيرة في مساعيها لوضع حد لتجاوزات إيران للإتفاقية النووية ولتوسع النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.

نقاط الخلاف بين الصين والولايات المتحدة كثيرة، منها القديم مثل موضوع تايوان، وقضايا حقوق الإنسان، وقضية جنوب بحر الصين، والتجسس التجاري الصيني على الشركات الأميركية، ومنها الجديد نسبيّاً مثل مسألة هونغ كونغ، والحرب التجارية التي أعلنها الرئيس السابق دونالد ترامب على الصين منذ بداية عهده.

العلاقة المتوترة مع الصين ظهرت بوضوح أثناء اللقاء الذي حصل بين وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي عن الجانب الأميركي مع نظيريهما الصينيين في مدينة انكوراج في ولاية ألاسكا في الثامن عشر من شهر آذار. بدأ هذا اللقاء بتبادل الإنتقادات القاسية أمام أجهزة التلفزة، وذلك قبل عقد لقاء العمل الذي انتهى باتفاق على تشكيل لجان عمل للتعاون في معالجة التغيير المناخي. ولكن الإتفاق على التعاون في مسألة المناخ لم يبدّد مرارة المواجهة العلنية، خاصة عند الجانب الصيني.

في انتقاداته اللاذعة بموضوع خرق حقوق الإنسان، ركز الجانب الأميركي في اجتماع أنكوراج على اتهام الصين بتنفيذ عمليات قتل جماعي للأقلية المسلمة من الأويغور في مقاطعة شينجيان الغربية، وبالتنكيل بسكان هذه المقاطعة، لجعلهم يذوبون ضمن الأكثرية الصينية. وقد أتبعت الولايات المتحدة هذا الموقف التصادمي بالقيام، بالتعاون مع الإتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا، بفرض عقوبات على شخصيات صينية متهمة بتنفيذ هذه السياسة ضد الأويغور، هذا مع العلم أن موقف هذه الدول من الصين خلفيته ليست دينية بحتة بل تتعلق بصورة خاصة بمسألة حقوق الإنسان والحريات العامة.

الملفت في هذا الموضوع أنّ الدول التي اتخذت عقوبات ضد الصين دفاعاً عن حقوق الأقليات المسلمة في مقاطعة شينجيان الصينية هي دول ذات أكثرية مسيحية واضحة، وقد جاء رد الصين على هذا الموقف الغربي بقيام وزير الخارجية الصيني بزيارة 6 دول إسلامية في الشرق الأوسط هي: المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران والإمارات العربية المتحدة والبحرين وعمان، وهي جميعها دول إسلامية.

والملفت أيضاً أنّ هذه الدول الإسلامية وقعت بيانات مشتركة مع وزير خارجية الصين وانغ يي تشير الى تعاون مستقبلي وتعاون سياسي واقتصادي وتجاري، من دون أية إشارة إلى تجاوزات حقوق المسلمين في الصين.

أما النجاح الكبير الذي تحقق للصين وإيران في هذه الزيارة فهو اتفاق لشراكة استراتيجية شاملة تم توقيعه في طهران في 27 آذار من قبل وزير خارجية كل من البلدين، وهو اتفاق لمدة 25 سنة، يشمل مجالات تعاون عديدة أهمها أن الصين ستوظف مبلغ أربعماية مليار دولار أميركي في مجالات البنى التحتية ومشاريع تنمية مختلفة، وإيران ستزود الصين بالبترول، طيلة مدة الإتفاق بأسعار مخفضة.

جدير بالإشارة هنا أن هذا الإتفاق بدأ الحديث عنه والتفاوض عليه بين الطرفين منذ العام 2016، قبل انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب، أي أنه لم يكن نتيجة انسحاب ترامب من الإتفاقية النووية، إلا أن توقيت إنجازه والتوقيع عليه تزامَن مع ردات الفعل على مواقف بايدن الملفتة.

ومع أن تفاصيل الإتفاق لم تعلن بعد، إلا أن مجلة «الإيكونومست» وصحيفة «نيويورك تايمز» سرّبت بعض الأمور من مسودة الإتفاق في مجالات التعاون العسكري والتكنولوجي والمصرفي، بالإضافة الى مسألة تصدير البترول الإيراني للصين والإستثمارات الصينية الضخمة في إيران.

لا شك أن هذا الإتفاق الصيني-الإيراني لشراكة استراتيجية شاملة يشكل تحدياً كبيراً للإدارة الأميركية في علاقاتها السيئة مع هاتين الدولتين ومع روسيا أيضاً، علماً أن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف زار الصين مؤخراً، وفي اجتماعه مع نظيره الصيني، دعا الدول المتخاصمة مع الولايات المتحدة الى التعاون من أجل الإستغناء عن الدولار الأميركي في نظام المدفوعات الدولية، والعمل على إيجاد نظام مواز له.

ولا شك أن هذا الإتفاق سيكون له نتائج إيجابية جداً لطهران في إطار مواجهتها للعقوبات والضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة عليها منذ انسحاب ترامب من الإتفاقية النووية، أهمها: إنتعاش مالي وتخفيف الضائقة الإقتصادية التي سبّبتها العقوبات الإضافية التي فرضها ترامب في العام 2018، خروجها من العزلة المفروضة عليها، تعزيز موقعها على الساحة الدولية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، وعدم شعورها بضرورة ملحة للتراجع عن خروقاتها للإتفاقية النووية وللموافقة على الشروط الأميركية لعودة الولايات المتحدة الى هذه الإتفاقية، وقد يتبلور هذا التصلب الإيراني في الاجتماع الذي سيعقد في فيينا بين الدول الموقعة على الإتفاقية النووية لبحث مستقبل هذه الإتفاقية.

فنظراً لامتداد إيران القوي داخل لبنان، لا بد أن يكون لهذا الوضع المستجد انعكاس على الساحة اللبنانية.

معروف أن قسماً لا بأس به من الشعب اللبناني يؤيّد إيران من دون تردد ويطالب بالتقرب اقتصادياً وسياسياً منها ومن سائر دول المشرق، كما أن القسم الآخر من الشعب لا يؤيد هذا التوجه إطلاقاً ويقاومه بشدة، وكل فريق يتهم الآخر بالاعتماد على الخارج لتحقيق أهدافه.

إنّ القسم الذي يرفض ربط مصير لبنان بسوريا وإيران شرقاً وصولا إلى الصين يتهم أخصامه بكل ما يعانيه لبنان من أزمات في وضعه الإقتصادي والمالي وفي مشاكل الكهرباء والماء وسائر الخدمات، بغية إيصال لبنان الى وضع يصبح فيه بحاجة الى التقرب من إيران التي ستقبل أن تبيعنا النفط بالليرة اللبنانية وتستورد منتجاتنا الزراعية والصناعية. كذلك نرى الفريق المقرّب من إيران يتهم الغرب بتجويع لبنان وتقويض سعر الليرة اللبنانية وإضعاف البلد الى حد الإنهيار، خدمة لمصالح إسرائيل.

لسنا هنا بحاجة الى تنبؤات ليلى عبد اللطيف لنعرف أن إيران، نتيجة لاتفاقها مع الصين، ستزيد من توسعها في المنطقة ودعمها لـ»حزب الله» في لبنان، مادياً وسياسياً، وستسعى الى تعزيز قدراته قدر المستطاع، ما سيجعل هذا الحزب أكثر تصلباً في شروطه سواء في تشكيل الحكومة أو في مواقفه من أخصامه في الداخل اللبناني.

أما الفريق المناهض للنفوذ الإيراني في لبنان، بالإضافة الى التشدد في مواقفه المعارضة لأخصامه في الداخل، فإنه سينتظر ما ستؤول اليه المبادرة الفرنسية والتصريحات القوية الأخيرة لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان مع ما رافقها من تحذير للذين يعرقلون تشكيل الحكومة، كما أنهم يأملون مواقف أكثر تصلباً من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في مواجهة إيران والعمل على وقف توسع نفوذها في المنطقة وخاصة في لبنان، ويسعون الى ممارسة ضغوط على أمل الحصول على تدخل دولي، ربما من الأمم المتحدة، لإخراج لبنان من النفق المظلم الذي هو فيه الآن.

إزاء هذا الإنقسام العميق في لبنان حيث ينظر نصف الشعب اللبناني شرقاً ويرى في تقرّبه وتعاونه مع دول هذه المنطقة خلاصاً للبنان، في الوقت الذي يتطلع فيه النصف الآخر من الشعب اللبناني باتجاه الغرب، ويرى في تقربه من الدول الغربية وتعاونه معها حلاً لمشاكل البلد، ألا يجدر بالفريقين أن يتطلع كل منهما تجاه الآخر، للتعاون فيما بينهما على حل مشاكل الوطن، واضعين المصلحة الوطنية العليا فوق اية مصلحة أخرى، وأن يقتنعوا بأن الخارج الذي يتدخل في شؤوننا الداخلية، شرقاً كان أو غرباً، إنما يفعل ذلك لمصالحه الذاتية وليس لمصلحة لبنان؟

الجدير بالأفرقاء اللبنانيين جميعاً أن يتفقوا على حد أدنى من المبادئ العامة التي تأخذ بالاعتبار مصلحة لبنان وتؤمن الراحة والرفاهية لشعبه، مع السعي الجدي الى الابتعاد تدريجاً عن النظام الطائفي الذي هو سبب لقسم كبير من النزاعات السياسية في لبنان وما ينتج عنها من مشاكل يصعب حلّها، والإنتقال الى الدولة المدنية حيث يحدّد الدين العلاقة بين الانسان وخالقه، بينما يحدد القانون المدني العلاقة بين الانسان وأخيه الانسان، مع احترام تام لجميع الأديان وتأمين حرية المعتقد لجميع المواطنين.

يعاني لبنان حالياً مشاكل كثيرة أوصلت نسبة ملموسة من مواطنيه تحت درجة الفقر، ويبدو أنّ العالم أصبح على أبواب حرب باردة جديدة بين الصين وروسيا وحلفائهما من جهة، وبين الغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة ثانية، ولذلك على الأفرقاء في لبنان عدم محاولة جر البلد في هذا الإتجاه أو ذاك، بل عليهم حماية وطنهم من التداعيات التي قد تصيبه كلما تحالفت أو تخاصمت دولتان أو أكثر، قريبة كانت أو بعيدة.