لن يكون أكثر «سورياليةً» من أن تمرّ عاصفةُ الضغوط الخارجية المتجدّدة من دون أن تُزَحْزِحَ ولو حجراً في جدارِ التعقيدات التي يقبع ملف تأليف الحكومة في أسْرها منذ أغسطس الماضي، فيما البلاد تُصارِعُ، بانكشافٍ سياسي ومؤسساتي كامل، «الإعصارَ» المالي – النقدي الذي يُنْذِر بـ«خرابٍ» معيشي ترتسم مؤشراته في يوميات الشقاء اللبناني.
ولا يأتي من بابِ «الضرب بالرمل» الحذَرُ الكبير في بناء توقّعات عالية حيال نتائج تزخيم الخارج إحاطته بالوضع اللبناني، عبر قنواتٍ عربية تعبّر عنها القاهرة وجامعة الدول العربية، وغربية تشكّل محورها الدائم باريس، وفاتيكانية مستجدة، بمقدار ما أنه وليد وقائع ثبّتها مسارُ الأشهر الثمانية الماضية وتعكس استعصاءَ المأزق اللبناني على حلول من «حواضر البيت» بعدما تَكَرَّس ارتباط «بلاد الأرز» عبر الأوعية المتصلة بالصفائح المتحركة في المنطقة.
وحتى الساعة، لم يبرز ما يجعل أوساطاً واسعة الاطلاع تخرج من دائرة محاذرة رسْمِ أي آفاق تفاؤلية حيال المسعى البارز، الذي تضطلع به القاهرة في سياق الحضّ على إنهاء المراوحةِ في الحلقة المدمّرة من الفراغ الحكومي، وهو المسعى الذي يزور وزير الخارجية المصري سامح شكري بيروت اليوم، في إطاره قبل أن تستكمل الجامعة العربية غداً، هذا المسار عبر الأمين العام المساعد السفير حسام زكي.
ويؤشر الوصول المرتقب لشكري إلى بيروت عبر باريس التي أشارت تقارير إلى أنه سيزورها مباشرةً قبل العاصمة اللبنانية، إلى أن ما سيحمله رئيس الديبلوماسية المصرية موفداً من الرئيس عبدالفتاح السيسي، سيكون منسَّقاً مع فرنسا التي ما زالت مبادرتُها التي تتمحور حول تشكيل حكومة اختصاصيين، «خُفّف» منسوب استقلاليتهم إلى مستوى غير الحزبيين ولا المُعادين للأحزاب، قائمةً رغم ارتباطِ بلوغِها الخواتيم الإيجابية بـ«أختام» إقليمية ليست في متناول الاليزيه.
وإذ تشير بعض المعطيات إلى أن القاهرة، لا تمانع أن تنطلق عربة حلّ الأزمة الحكومية من الأفكار التي طُرحت أخيراً وبدا رئيس البرلمان نبيه بري «عرّابها» على قاعدة تشكيلة من 24 وزيراً (عوض 18) على أن لا يكون لأي فريق فيها الثلث المعطّل، لم يكن ممكناً التدقيق في طبيعة الرسالة التي سينقلها شكري في ظلّ تقارير أشارت إلى أن مصر تَلقت عبر قنوات دولية أن الوقت نَفَدَ أمام اللبنانيين وأن مرحلة «التسامح» مع التعطيل المتمادي لعملية التأليف انتهتْ، وهو ما كان أشّر إليه بوضوح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف – لودريان، حين تحدّث عن وجوب تصعيد الضغوط على المعرقلين، الأمر الذي اعتُبر غمزاً من قناة عقوبات باتت قاب قوسين.
ولم تكن باريس محط الأنظار فقط انطلاقاً من ترقُّب زيارتها من وزير الخارجية المصري قبل انتقاله إلى بيروت للقاء كبار المسؤولين اللبنانيين وشخصيات سياسية والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، بل أيضاً في ضوء «الضوضاء» والضبابية التي رافقتْ المحطة المفترضة لرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في العاصمة الفرنسية، والتي ترنّحتْ في «أصْلها» بين أنها ستحصل في الساعات المقبلة، قد تحصل، وربما لن تحصل، وذلك قبل الوصول إذا كانت ستشتمل على لقاء مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أم لا.
وفيما لم يكن أحد في بيروت يملك جواباً أمس حول هل حُسم أمر زيارة باسيل لباريس، فإنّ بعض العناوين المرتبطة بها بدت محسومة، وأبرزها:
– أن ما أشيع عن مسعى من ماكرون لجمْع باسيل والرئيس المكلف سعد الحريري في لقاء ثنائي غير دقيق، وأن أروقة الاليزيه تشهد بحثاً في أفكار حول سبل استثمار سياسة «العصا والجزرة» وبينها إمكان دعوة أكثر من طرف لبناني على علاقة بعملية التأليف لزيارة فرنسا.
– أن الحريري ليس في وارد التسليم لباسيل بأي لقاء ثنائي خارج كونه رئيس كتلة برلمانية، بمعنى أن أي اجتماع به يكون بعد تشكيل الحكومة التي يُعتبر الشريك الدستوري في مسارها رئيس الجمهورية (ميشال عون) دون غيره.
واستوقف أوساطاً سياسية أن إشارات متناقضة صدرت عن قريبين من «التيار الحر» بعضها أوحى بأن باسيل لم يطلب زيارة باريس وأن الأخيرة لم توجَّه إليه حتى الساعة دعوة، وأن رئيس «التيار الحر» ليس بأي حال بحاجة إلى وسيط لترتيب مثل هذه الزيارة، في غمزٍ مما كُشف عن أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم هو الذي حَبَكَ الزيارة المفترضة، في موازاة كلام مصادر مطلعة عن أن باسيل يسعى لإتمام هذه المحطة لأن من شأنها «ردّ الاعتبار» له بوجه العقوبات الأميركية كما الاتهامات الموجَّهة إليه بأنه يتمسك بالثلث المعطّل.
ولاحظت المصادر أن التسريبات المتقاطعة عن أن باسيل إذا كان يريد تقديم تنازلاتٍ في الملف الحكومي فإنه سيضع هذه الورقة في «سلّة» ماكرون وليس الرئيس بري، تبدو أقرب إلى محاولةٍ «ترغيبية» لاستدراج دعوة من الاليزيه، الذي يصعب، وفق هذه الأوساط، تَصَوُّر أن يستقبل رئيس «التيار الحر» من خارج ضماناتٍ بأنه سارَ بالتسوية، أي بمعنى لقاءٍ لتتويج الحلّ وعندها قد لا يكون ثنائياً، وإلا تُرك لباسيل هامش جديد لتوسيع المناورات الحكومية تحت عناوين حقوق المسيحيين والميثاقية والتوازن الوطني.
وفي رأي المصادر نفسها أن هذه العناوين ستخسر المزيد من «مفعولها» في الصراع الحكومي مع الزيارة التي يُرتقب أن يقوم بها الرئيس الحريري للفاتيكان في الساعات المقبلة حيث سيلتقي البابا فرنسيس، في محطة بالغة الدلالات تعكس انخراطَ الفاتيكان في محاولة وقف الانهيار الكبير في لبنان، والتي ينسجم فيها مع طروحات البطريرك الراعي الداعية لحكومة اختصاصيين بلا ثلث معطّل والتي تدفع من الخلف أي مبادرة في هذا الاتجاه.
ويشي مجمل هذا الحِراك من حول لبنان وفي اتجاهه باستشعار الخارج ما تقف البلاد على مشارفه بحال لم يتم سحْبها من «فم» الصراع الإقليمي، وسط تشكيك دوائر عليمة بإمكان فكّ أسْر الحكومة على وقع تركيبِ «جسور التراجعات» على جبهة النووي الإيراني باعتبار أن أي تنازُل في الوضع اللبناني، ولو لم يكن من «جيْب» طهران وحلفائها، قد يفسَّر استعداداً لمقايضاتٍ ليست إيران بواردها في ساحات نفوذها، وإن كان هذا من عناوين «اشتباكٍ مؤجَّل» في المنطقة.