كتب عمر نشابة في جريدة الأخبار:
تفوق قيمة المواد المخدرة الممنوعة التي صادرتها قوى الأمن الداخلي في آذار الفائت 300 ألف دولار (نحو ثلاثة مليارات و600 مليون ليرة)، في وقت لا يتجاوز فيه راتب العميد في قوى الأمن سبعة ملايين و200 ألف ليرة (600 دولار) ولا يزيد راتب العسكري على 150 دولاراً.
صحيح أن قوى إنفاذ القوانين في كل دول العالم تصادر أحياناً ممنوعات تفوق بكثير قيمة ما يتقاضاه عدد كبير من أفرادها، غير أن الوضع في لبنان مختلف. إذ إن الأزمة المعيشية الخانقة تحرم العسكر بعض حاجاتهم وحاجات عوائلهم الأساسية، في وقت يزيد فيه ثراء فئة من اللبنانيين، ما يفاقم الشعور بعدم المساواة وعدم تقدير السعي لحفظ النظام العام وملاحقة المجرمين.
وتنبغي الإشارة الى كمية المخدرات التي أعلن عن ضبطها خلال آذار الفائت (نحو 2 كيلو كوكايين وكمية من باز الكوكايين وآلاف حبوب الكبتاغون، إضافة الى حبوب مخدرة أخرى وأكثر من كيلو من القنّب الهندي) تشكل نسبة صغيرة من مجموع المخدرات المستخدمة والمتداولة والمخزنة في لبنان. إذ إن القسم الأكبر من المواد المخدرة غالباً ما تعجز الشرطة عن ضبطه أو تحديد مكانه. ولا تمتلك القوة والخبرة والمعرفة الكافية لمداهمة جميع التجار والمروّجين. كما لا يخفى أن كبار تجار المخدرات غالباً ما يحظون بحماية خاصة من قبل نافذين في الدولة (كما في معظم دول العالم).
يقوم ضباط ورتباء وعناصر قوى الأمن الداخلي بعملهم بملاحقة بعض التجار والمروّجين والمتعاطين، لكنهم يتعرّضون لضغوط بسبب الوضع المعيشي الخانق من جهة، والتوتر وتأخّر تأليف الحكومة من جهة ثانية، والوضع الصحي الدقيق في ظل انتشار فيروس كوفيد 19 من جهة ثالثة. وقد فقدت رواتبهم قيمتها الشرائية في ظل ارتفاع الأسعار، وتراجعت قيمة راتب الجندي (مليون و296 ألف ليرة) مثلاً لتساوي نحو مئة دولار شهرياً، وراتب النقيب (ثلاثة ملايين و900 ألف) الى ما يوازي 325 دولاراً.
هذا الضغط يشمل أيضاً القضاء وسائر دوائر الدولة والقطاع الخاص. غير أنه يأخذ منحى خطيراً بالنسبة إلى المؤسسات المعنية بالأمن. ويُخشى أن يؤدي أي تساهل في فرض الانضباط ومراقبة الأداء وتفعيل التفتيش الى حالة فوضى. إذ كلما زاد وقع الأزمة على معيشة العسكر، وكلما كبرت قيمة المصادرات ارتفعت نسبة احتمال الفوضى.
أضف الى ذلك أن الموقوفين والمضبوطات أحيلوا الى القضاء حيث تتراكم الملفات، وتعجز النيابات العامة والمحاكم عن الإسراع في بتّها واتخاذ القرارات وإجراء المحاكمات بسبب نقص التجهيزات لعقد جلسات إلكترونية (على الرغم من جهود وزارة العدل لتأمينها). أما السجون فحدّث ولا حرج عن الاكتظاظ والظروف الصعبة والمباني القديمة ونقص الغذاء والدواء وأبسط الحاجات.
يساق عشرات الموقوفين بجرائم اتجار وترويج مخدرات أوقفتهم قوى الأمن الشهر الفائت الى تلك السجون المترهّلة التي تدار بموجب قانون صدر عام 1949 ولم يعد صالحاً للتطبيق. هناك يسجن تاجر المخدرات الذي عاد الى تجارته الممنوعة بعد إطلاق سراحه من السجن نفسه بالجريمة ذاتها. فوظيفة تصحيح السلوك الجنائي معطلة بشكل كامل في لبنان منذ زمن، والنتائج السلبية لهذا التعطيل تتفاقم مع الارتفاع الملحوظ في نسب الجرائم.
المخدرات المضبوطة خلال الشهر الفائت نقلت الى المستودعات قبل تحديد موعد لتلفها بإشراف القضاء. يومها، قد يحدّق القاضي والضابط والعسكري بممنوعات تفوق قيمتها رواتب 500 عميد وقاض وهي تحترق. وفي اليوم نفسه، سيتعرّف التجار والمروّجون الذين تعود لهم تلك الممنوعات على تجار آخرين في السجن ويخططون لتنفيذ عمليات جنائية أكثر ربحاً لهم ويطوّرون حيلاً لعدم انكشافهم في المرة المقبلة.