كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
هذه المرّة، لم يكن روتينياً تحذير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان من عقوبات، «خلال الأيام القليلة المقبلة»، على مسؤولين وسياسيين في لبنان. فالرجل يعبِّر عن جدِّية أكبر داخل إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون، بعدما «شبعت» تهديدات فارغة طوال شهور. فهل تتجّه باريس فعلاً إلى فرض عقوبات؟ على مَن؟ وما المفاعيل المتوقّعة؟
يقول ديبلوماسي مواكب للموقف الفرنسي: باتت باريس ملزمة بإنهاء مراوحتها في لبنان. وفي عبارة أخرى، هي مضطرة إلى إلقاء حجَرٍ في المستنقع، وليكن ما يكون من تداعيات.
في إدارة ماكرون، هناك مَن يقول له: «إفعَلْها، وكفى انتظاراً. ولو استجَبْنا إلى إدارة الرئيس دونالد ترامب وشاركناها العقوبات على المعطِّلين في لبنان، لكان موقعُنا أقوى. إلاّ أننا تردَّدنا وكنا نراهن على أنّ هؤلاء سيلجأون إلينا هرباً من الأميركي، فـ»نقطفها» سياسياً.
هذا الرهان كان مجرّد وَهْمٍ، والمعطِّلون في لبنان استقووا بالليونة الفرنسية ليحبطوا عقوبات واشنطن، ثم ما لبثوا أن انقلبوا على المبادرة الفرنسية نفسها وأسقطوها».
أكثر من أي يوم مضى، يشعر ماكرون بأنّه لا يمتلك أي ورقة ضغط في لبنان، ترغيباً أو ترهيباً، وأنّ القوى النافذة ستواصل استغلال الوساطة الفرنسية لتغطية نفسها. وبات على اقتناع بأنّ حال التردُّد والإرباك الذي تُظهِره إدارة بايدن تجاه لبنان والملف الإيراني، زاد من متاعب المبادرة الفرنسية بدلاً من تسهيلها.
يلاحظ الديبلوماسي، أنّ ماكرون يتحمَّس لزيادة الضغط في لبنان، فيما الأميركي، على العكس، فَقَدَ الحماسة ويراجع مقاربته للملف الإيراني. هذا يعني أنّ الفرنسي والأميركي سيتعاكسان مرة جديدة حول لبنان، وستكون الأدوار مقلوبة. ولكن، ستكون النتائج متشابهة في أي حال: طاقم النافذين هو المستفيد.
على رغم هذه الشكوك، سيبادر الفرنسيون لأنّ لا سبيل آخر أمامهم. وقد بات حراكُهم وشيكاً. فما نوع العقوبات التي تدرس فرنسا إقرارها؟
المواكبون للملف في باريس يبادرون إلى القول إنّ الرهان الفرنسي على العقوبات، من أجل إحداث تغيير مفصلي في لبنان، ليس كبيراً. فإذا كان الأميركيون قد فشلوا في تحقيق التغيير، بضغوطهم الهائلة طوال 4 سنوات، فسيكون منطقياً لفرنسا أن تقتنع بنتائج أدنى لعقوباتها.
وفي واشنطن، تستند العقوبات إلى قوانين مرتبطة بتمويل الإرهاب والفساد. وإذا قرَّرت باريس اعتماد قوانين مماثلة، فستحتاج إلى الكثير من الوقت والمبرّرات القانونية. وهذا ما يستغرق أشهراً، فيما ماكرون يدخل العام الأخير من ولايته ويقترب من الانتخابات الرئاسية في حزيران 2022.
لذلك، الرائج في الدوائر العليمة في باريس، أنّ ماكرون سيلجأ إلى عقوبات محدَّدة، على مسؤولين وشخصيات سياسية ومصرفية تتعاطى الشأن العام، بناءً على معلومات دقيقة مستقاة من الأجهزة والدوائر الفرنسية، حول دور هذه الشخصيات في الفساد وتعطيل التدقيق الجنائي. وعلى الأرجح، سيكون المدخل إلى ذلك بفتح تدقيق، في باريس، يستهدف أرصدة مصرفية مشتبهاً فيها.
ويذهب بعض المتابعين إلى أنّ فرنسا قد تستند أيضاً إلى دورها في رعاية مؤتمرات الدعم، على مدى 20 عاماً مضت، أي باريس1 و2 و3، ثم «سيدر» المجمَّدة أمواله، للتدقيق في مصير مليارات الدولارات التي هُدِرت خلال هذه الفترة، حتى وصل البلد إلى الإفلاس، وبينها أموال منحتها فرنسا مِن أموال المكلَّفين، ويحق لها مساءلة لبنان عن طريقة إنفاقها. أي إنّ فرنسا تمتلك حقّاً مادياً ومعنوياً في رصد مسارات بعض الملفات والودائع ومتابعتها وفرض العقوبات على الفاسدين.
ولكن، هل ستؤدي هذه العقوبات إلى تحقيق نتائج ملموسة في لبنان؟
المتابعون يقولون إنّ منظومة السلطة ستراهن مجدداً على المماطلة، خصوصاً أنّ فرنسا ليست في وارد تنسيق خطواتها مع واشنطن، وأنّها لن تجد التجاوب الكافي على مستوى الشركاء الأوروبيين بسبب تباين المصالح والأولويات. وكما انتظر الإيرانيون و»حزب الله» رحيل ترامب، سينتظرون رحيل ماكرون.
ولكن، الأكثر أهمية هو أنّ الرئيس الفرنسي نفسه سيحافظ على «زخم منخفض» لعقوباته، بسبب خوفه على مبادرته السياسية. فاستعداء منظومة السلطة سيجعل باريس خارج شبكة الوسطاء المرغوب فيهم. وميزة الوساطة الفرنسية هي أنّ أصحابها لا يريدون خسارتها بأي ثمن. والأيام المقبلة ستحدّد السقف الذي سيصل إليه الفرنسيون في عقوباتهم الموعودة.
في أي حال، في بيروت بدأت التحضيرات للتعاطي مع العقوبات. وباشرت القوى السياسية تظهير نفسها وكأنّها بعيدة من التعطيل وبريئة من الفساد. وعندما استبعد وزير خارجية مصر سامح شكري «حزب الله» و»التيار الوطني الحرّ» من جولته الأخيرة، أدرك هذا الفريق فحوى الرسالة السياسية التي تحظى بتغطية فرنسية أيضاً.
ولذلك، ومن باب الحماية، سارع الرئيس ميشال عون إلى توجيه خطاب «براءة ذمَّة» بلجهة «الجنرال» القديم. وهو إذ استهلّه بمناداة «أيها اللبنانيون»، فعلى الأرجح أرسل النداء إلى الفرنسيين خصوصاً: «مبادرتُكم لا تستقيم إلّا بالتدقيق الجنائي، ولستُ أنا من أمنع التدقيق. دقِّقوا في الأمر، وحاسبوا الذين تعاقبوا ومرَّروا المخالفات». وضمناً يقول: «إنّهم أولئك الذين تراهنون عليهم سياسياً»!
هل يخرج الفرنسيون من المأزق اللبناني بالحدّ الأدنى من الأضرار؟
الأمر يبدو شبيهاً بحالِ أي «أُمّ حنون» مع الولد العاقّ الذي يُسوِّد الوجه: لا هي قادرة على إنكاره، ولا هو مؤهَّل للاصطلاح.