كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
حدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته الثانية إلى لبنان الإطار العام للمبادرة الفرنسية التي وضعها ضمن مرحلتين: الأولى حكومية لفرملة الانهيار، والثانية تسووية للأزمة اللبنانية. فهل الهدف من وراء عرقلة التأليف الحؤول دون بلوغ المرحلة الثانية؟
لا يمكن الاستهانة بالأسباب التي ما زالت تحول دون تأليف الحكومة، وعلى رغم صعوبة الجزم بأي سبب من الأسباب كونها غير معلنة، إلّا انّه من المهم التذكير بأبرزها:
السبب الأول، يتعلق بمرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. ويخطئ من يعتقد انّ العهد يمكن ان يفرِّط في الجانب السلطوي الذي يوليه الأولوية دائماً، وتكفي العودة إلى تاريخه منذ العام 1988 للدلالة على ذلك، خصوصاً انّ معظم تركيزه في الآونة الأخيرة أصبح يتمحور حول كيفية إما الاحتفاظ بموقع الرئاسة، وإما حجز هذا الموقع فارغاً لأطول فترة ممكنة، وما بينهما الاحتفاظ بالمبادرة السلطوية، أي ناصية القرار داخل الحكومة.
السبب الثاني، يرتبط برئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الذي سيقود المرحلة الانتقالية بعد الفراغ الرئاسي، وهذا ما يجعل من لقاء الرئيس المكلّف سعد الحريري مع باسيل ممراً إلزامياً للتأليف، لأنّ العهد لن يتكئ على الوزراء الذين سيختارهم في الحكومة للتنسيق او ربط النزاع مع الحريري، إنما بحاجة إلى آلية تنسيق رسمية ومضمونة وموثوقة بين رأسين، وفي حال لم يبد الرئيس المكلّف تجاوباً من أجل إعادة إحياء العلاقة القديمة مع باسيل، فإنّه، بالنسبة إلى العهد، سيبقى مكلّفاً حتى نهاية العهد.
السبب الثالث، يتعلّق بمواقف ثلاث دول مقرّرة في لبنان: الولايات المتحدة والسعودية وإيران، حيث من الواضح حتى الآن، انّ واشنطن تتعامل مع الملف اللبناني برفع عتب، ولا تبدي اهتماماً جدّياً بالدفع نحو تأليف الحكومة، والتفسير المحتمل لذلك، انّها لم تُعدّ تصوراً شاملاً لملفاتها بعد، وتعطي الأولوية للملف النووي الذي يندرج لبنان، برأيها، من ضمنه، وطالما انّ واشنطن غير مهتمة فيعني انّها لن تدخل في أي بازار مع طهران.
وأما الرياض، التي شكّلت دوماً قوة مساندة ودعم للبنان سياسياً ومالياً، فأعلنت في أكثر من محطة وموقف، بأنّ دعمها لم يعد شيكاً على بياض كما كان في السابق، وهذا لا يبدِّل طبعاً في دورها الثابت كقوة استقرار وداعم للدولة اللبنانية وسيادة كل الدول العربية، إنما أعادت النظر بدعمها المفتوح لدولة تُستخدم من قِبل أخصامها ضدّها، إذ كيف يُطلب منها ان تدعم من حوّل لبنان منصّة لاستهدافها؟
وطالما الشيء بالشيء يُذكر، فإنّ حلفاء النظام السوري في لبنان أصرّوا على تضمين فقرة في «وثيقة الوفاق الوطني» في الطائف، تنفيذاً لرغبة هذا النظام، وهي تنص حرفياً: «فإنّ لبنان لا يسمح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن سوريا، وإنّ سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدّد أمنه واستقلاله وسيادته»، فلماذا ما ينطبق على النظام السوري الذي عادى أكثر من نصف الشعب اللبناني، لا ينسحب على دولة صديقة مع معظم الشعب اللبناني؟ وبالتالي، لماذا على الرياض ان تدعم لبنان الذي تحوّل إلى ممر ومستقر لتنظيم يستهدفها ويمسّ بأمن الدول العربية؟
والرياض هي مفتاح خزانة الخليج، ومن دونها لا قيمة لأي تسوية حكومية في لبنان، الذي يحتاج إلى الدعم المالي قبل اي شيء آخر، من أجل فرملة الانهيار واستعادة الاستقرار، وهذا ما يفسِّر، ربما، تردّد الرئيس المكلّف الذي لا يريد ان ينقل كرة النار المالية إلى حضنه قبل ان يتأكّد من مسألتين: الدعم السعودي والدعم الدولي الذي يتوقّف على تركيبة الحكومة وجدّيتها في إطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وأما لناحية إيران، فهناك وجهة نظر تقول انّها غير معنية بملف تأليف الحكومة الذي هو في عهدة «حزب الله»، وانّها معنية فقط بدور الحزب ضمن الصراع الاستراتيجي، بعيداً من تفاصيل السياسة اللبنانية التي تتركها للحزب الذي بدوره ظهر في كل مواقفه المعلنة بأنّه ساع إلى تأليف الحكومة التي تشكّل له مصلحة استراتيجية حفاظاً على الستاتيكو القائم، في ظلّ خشيته من وجود مخطط لضرب هذا الستاتيكو.
ولكن، ثمة وجهة نظر ثانية تتحدث، إما عن تواطؤ مع باسيل لافتعال العِقَد المحلية، وإما عدم الضغط عمداً عليه تسريعاً للتأليف، وذلك من أجل تغطية العقدة الأساسية المتصلة بحجز طهران لكل أوراقها في المنطقة تحسيناً لشروط مفاوضاتها النووية التي انطلقت، سيما انّها تدرك بأنّ تأليف الحكومة يؤدي إلى تبريد الوضع اللبناني، فيما الحفاظ على سخونة الوضع يقّوي موقعها التفاوضي ويعززه للمناورة والمقايضة.
وفي موازاة كل ذلك، راجت في الآونة الأخيرة مقولة تعزو العرقلة في تأليف الحكومة إلى خشية «حزب الله» من ان يؤدي التأليف إلى انتقال باريس إلى المرحلة الثانية من مبادرتها، وهي إطلاق البحث في التسوية اللبنانية النهائية، باعتبار انّ التسوية الحكومية وظيفتها محدّدة بكبح الانهيار والحؤول دون سقوط الهيكل، فيما التسوية السياسية وظيفتها إخراج لبنان من حالة الانقسام والمراوحة والاستقرار الهشّ والدولة الصورية والنزاع المتواصل الذي يتخذ في كل مرحلة أشكالاً مختلفة.
وعلى رغم مصلحة «حزب الله» وسعيه لتعديل الدستور، الأمر الذي يعلنه ولا يخفيه، ولكنه يريد الوصول إليه بتوقيته لا توقيت غيره، خصوصاً انّ ثلاثية باريس والقاهرة والفاتيكان الداعمة لتأليف الحكومة، توجّهها أقرب إلى أخصامه، ولا شك أيضاً انّ الحزب قرأ جيداً رسالة وزير الخارجية المصري سامح شكري، بامتناعه عن اللقاء معه ومع حليفه باسيل، والأهم تشديده على الدستور واتفاق الطائف، في رسالة واضحة بأنّ القاهرة تقف ضدّ اي محاولة للانقلاب على هذا الاتفاق، وهذا ما استفز مصادر القصر الجمهوري التي اتهمت الحريري «ببث أفكار تؤذي لبنان في الخارج»، واعلنت تمسكها بالدستور، واتهمت الرئيس المكلّف بالسعي إلى المثالثة، علماً انّ المثالثة تشكّل أحد أهداف الحزب الأساسية، كما انّ الطائف كان دوماً غريباً عن أدبيات التيار العوني الذي خوّن كل من أيّد هذا الاتفاق، والتفسير الوحيد لردّ فعله المستغرب والعنيف، هو انّ الوزير المصري كشف المستور، فيما التركيز الدائم للعهد على الصلاحيات يشكّل تمهيداً وتربة صالحة لما يسعى إليه الحزب من تعديل دستوري.
ولا تستبعد المقولة نفسها فكرة ان يكون «حزب الله»، الساعي والباحث عن تعديل دستوري، لا يريد ان تتألف الحكومة، ليس فقط تجنباً لانتقال باريس إلى المرحلة الثانية من مبادرتها بتوقيت فرنسي، إنما من أجل ربط كل الملف اللبناني بالمفاوضات الإيرانية مع المجتمع الدولي، واحتمال ان تشمل الدور الإيراني في المنطقة، فتكون مناسبة لوضع الملف اللبناني على طاولة المفاوضات بتوقيت إيراني وبتسخين لبناني، لأنّ ما يمكن انتزاعه في لحظة انهيارية هو غيره في لحظة مستقرة، وبالتالي المطلوب إبقاء لبنان في غرفة العناية الفائقة حتى اللحظة التي يتأكّد فيها الحزب من نيات المجتمع الدولي ووتيرة مفاوضاته مع طهران. فإذا لمس بأنّ الدور الإيراني يشكّل جزءاً لا يتجزأ من المفاوضات الدائرة، يبقي الورقة اللبنانية معلّقة في دائرة الفراغ، سعياً لمقايضة وتعديلات دستورية. أما في حال وجد انّ الدور الإيراني غير مطروح على بساط البحث والمفاوضات طويلة الأمد، فيُفرج عن الحكومة.