IMLebanon

“إنهيارات” ما بعد “تجميد” المبادرات

كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:

إن بقيت موازين القوى من الطبخة الحكومية على ما هي عليه، ولم يتراجع احدهم عن سقفه العالي، فإنّ معظم المبادرات المطروحة، ومن بينها الفرنسية، ستدخل مدار الخطر الشديد. وإن بقي بعض اللبنانيين مصراً على النظر الى الجهود المبذولة وكأنّها لإنقاذ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من ورطة ما، فهو واهم. فلولا بعض الجهود المكمّلة لها، لكان الفرنسيون قد جمّدوا نشاطهم منذ فترة. لماذا وكيف؟

في الكواليس الديبلوماسية كلام كثير يتناوب فيه المتحدثون عن اداء المسؤولين اللبنانيين وحساباتهم السياسية وطريقة إدارة شؤون الناس بما لا يستسيغه كثر. فالإصرار على تجاوز ما يقول به القانون والدستور، واللجوء المستمر الى تكريس بعض الأعراف، وإستغلال المعادلات الخارجية لبناء موازين القوى في الداخل، دفع ببعض الديبلوماسيين الى العودة الى أصدقائهم اللبنانيين من خبراء دستوريين، للحصول على تفسير بعض الخطوات والتي استمعوا اليها في اللقاءات التي جمعتهم بالمسؤولين.

ومرد هذا الإعتقاد الذي ساد الاوساط الديبلوماسية وخصوصاً الجدد منهم، يعود الى مدى الإنقسام الحاد بين المعنيين بملف تشكيل الحكومة، في تفسيرهم للأصول الدستورية التي تحكم عملية التأليف، والربط دائماً بين الحاجة الى العودة الى بعض الأعراف التي تتناقض في شكلها ومضمونها مع ما اعتُمد سابقاً، وفي حالات مشابهة، والنية بتجاوز ما قالت به المبادرة الفرنسية في عملية التأليف، وهو ما ادّى الى الخلاف بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري وصولاً الى الاتهامات المتبادلة التي عمّقت الهوة بينهما.

وعلى وقع البحث الجاري في بعض البعثات الديبلوماسية المعتمدة في لبنان عن الاصول الدستورية التي تحكم عملية التأليف، زادت نسبة الشكوك في إمكان تقريب وجهات النظر بين اللبنانيين وفق المبادرات المعلنة، وتلك التي بقيت في الكواليس. وفي اعتقادهم، انّ ما يبرز من خلافات في تفسير مواد دستورية بين رئيس الجمهورية والمحيطين به من جهة، والرئيس المكلّف من جهة أخرى في فترة من الفترات، يؤكّد ذلك. فعندما استُدعي السفراء الى قصر بعبدا بعد «الاثنين الحكومي الاسود» في 22 آذار الماضي لتوضيح وشرح المواقف، ثبت لديهم استحالة التوصل الى قواسم مشتركة، وانّ اي مبادرة مطروحة، بما فيها الفرنسية، لن تجد طريقها الى النهايات الإيجابية المرغوب بها اقليمياً ودولياً، من اجل وضع الأزمة اللبنانية على الطريق الى التعافي والإنقاذ.

وإن شكك بعض الديبلوماسيين بصدقية هذه المعادلة وتوصيفها الدقيق لما نحن فيه من مأزق، فقد جاءت زيارة وزير الخارجية المصرية سامح شكري الى بيروت لتزيد من صوابية النظرة الى عقم المعالجات الجارية، وصولاً الى الإعتقاد بأنّ موعد تجميد هذه المبادرات قد دنا، وهي مسألة ايام. فالنتائج المترتبة على المتغيّرات الاخيرة وضعت ملف التأليف جانباً لتفتح ملفات أخرى تثير الجدل وتبعد عملية التأليف الى أمد غير محدود.

والأخطر، انّ ما هو متوقع من تطورات تزيد الامور تعقيداً، ومنها ما انتهت اليه مهمة شكري في بيروت، التي توحي بأنّها انتهت، ولن يكون لها اي تردّدات سوى الجانبية منها. فهو أسرّ الى بعض اصدقائه اللبنانيين، انّه بزيارته الى بيروت، وبعد استمزاج آراء الاميركيين واصدقاء دوليين وخليجيين آخرين وبالتشاور مع الجانب الفرنسي، فقد تمنّى على نظيره الفرنسي التريث في اعلان مواقف اكثر حدّة مما اطلقه الى اليوم. وهو بذلك يحاول منع الجانب الفرنسي من بلوغ مرحلة الانسحاب واللاعودة.

وإن اضاف العارفون ما لديهم من معلومات، يمكن القول انّ شكري يترقب قراراً فرنسياً حاداً لا يقارب ما يُشاع عن مجموعة العقوبات التي جرى الحديث عنها في الايام القليلة الماضية، بمقدار ما يتجاوز هذه المحطة لنفض اليد من المبادرة الخاصة بلبنان وتجميد مساعيها. وهي حسابات لا تمسّ الجانب الفرنسي بأي خطر، بل هي تهدّد القضية اللبنانية وما يمكن ان يؤدي اليه انحسار الاهتمام الدولي بها، وخصوصاً ان بات مماثلاً للإهمال الخليجي خصوصاً والعربي عموماً، الى درجة عدم الاكتراث بما سيؤول اليه الوضع نتيجة تنامي الأزمات وتشابكها الى درجات خطيرة، تضع البلد وكيانه ومؤسساته على شفير الانهيار.

ولمن لا تكفيه الإشارات المصرية التي أسرّ بها رأس الديبلوماسية المصرية باسمه وبالإنابة عن شركائه الفرنسيين والمهتمين الاميركيين والعرب، فإنّ الإصرار الذي عبّرت عنه مواقف رئيس الجمهورية وما تلاها من تسريبات عن النية في اتخاذه اجراءات حادّة في حق حاكم مصرف لبنان في الساعات الاخيرة، اشارت بما فيه الكفاية، عمّا هو منتظر من تدهور مريع للوضع. وما زاد في الطين بلّة، تؤشر اليه الاستعدادات التي انطلقت بعد اقل من ساعتين على انتهاء زيارة شكري، لفتح معارك جانبية أخرى اشارت اليها التحرّكات الليلية التي بدأها مناصرو «التيار الوطني الحر» في بعض المناطق وعلى الطريق الى قصر بعبدا، على خلفية مصير التدقيق الجنائي، بعد ساعة على رسالة رئيس الجمهورية بصفته «انا الجنرال ميشال عون». وهي خطوة لا تقف فصولها عند ما حصل، فما شهده قصر العدل في اليوم التالي يؤشر الى التمادي بهذا الاسلوب، وانّ التحضير لخطوات شعبية إضافية قد بدأ.

عند هذه المؤشرات ارتفع منسوب القلق على ما هو متوقع من انهيارات مقبلة. فإنهاء مفاعيل زيارة وزير الخارجية المصرية في السرعة التي تحققت، وبطلان ما يؤشر الى اعطاء زيارة الامين العام المساعد للجامعة العربية حسام زكي اي اهمية تُذكر، دفعا الى توقعات سلبية، وسيعززها تجميد الاتصالات التي اجراها عدد من السفراء من اصدقاء المبادرة الفرنسية، نتيجة ما اصابهم من يأس وقنوط من إمكان تصويب البوصلة. ففي رأيهم، انّ «الحكومة المغيّبة» هي بداية الطريق الى التعافي والإنقاذ، وهو ما لم يدركه المسؤولون بعد او أنّهم لا يريدون ذلك اياً كان الثمن.

وعليه، ما سيكون عليه الوضع، إن ثبت الإقتناع لدى الدوائر الديبلوماسية بأنّ الممسكين بمفاتيح الحل في لبنان غارقون ـ بمعزل عن هموم اللبنانيين ومآسيهم – بما يضمن لهم مصالحهم المحكومة بهاجس الدور الذي ستلعبه الحكومة الجديدة في الاستحقاقين الانتخابيين النيابي والرئاسي، إن لم تصل البلاد الى مرحلة الشغور الرئاسي مرة اخرى. عدا عن الخوف المسبق من صعوبة مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والنقدية ان لم تلاق التشكيلة الحكومية الجديدة مطالب صندوق النقد الدولي والمؤسسات المانحة، ليمدّوا لنا يد المساعدة، قبل العزل الشامل والانهيار المقدّر بلوغه فور تجميد الوساطات الخارجية في وقت ليس ببعيد.