كتب جوني منير في “الجمهورية”:
ما من شك انّ القلق الفرنسي حيال الوضع اللبناني بلغ ذروته. وتدرك باريس جيداً أن ثمة مزيجاً قاتلاً ما بين التعقيدات الاقليمية والمصالح الشخصية الداخلية يمنع الولادة الحكومية
فعلى المستوى الاقليمي حسابات تؤذي مصالح لبنان ودوره المستقبلي، وعلى المستوى الداخلي حسابات ضيقة حيال تعزيز احجام القوى السياسية وربطها بالاستحقاقات المقبلة مثل الانتخابات النيابية وخصوصاً الانتخابات الرئاسية. أما الانهيار الذي يفتك بما تبقى من الطبقة الوسطى ويسحق الطبقة الفقيرة، فهو خارج الحسابات السياسية رغم انّ الجميع يرفعون هذا الشعار، إنما للاستهلاك الاعلامي والشعبي وليس للعمل على اساسه.
وهذا المزيج القاتل الذي بات من المستحيل معالجته بالاطر الداخلية، يبدو عصياً على الحلول الخارجية، على الاقل على المبادرة الفرنسية. لذلك، رفعت باريس سقف خطابها خصوصا بعد فشل خطوتها بإحداث فجوة في الجدار الحكومي السميك.
وقد تمثّل ذلك بكلام وزير الخارجية جان ايف لو دريان، والذي تلاه الحديث عن خطوات اوروبية قريبة بتجميد الارصدة والاصول ومنع تأشيرات الدخول الى اوروبا عن الذين يعرقلون ولادة الحكومة. ومنذ حوالى العشرة ايام جرى تشكيل لجنة مشتركة من القصر الرئاسي الفرنسي ووزارة الخارجية مهمتها دراسة ملف العقوبات على اسماء لبنانية متهمة بعرقلة ولادة الحكومة. ورغم حال الحجر الذي فرضه على نفسه رئيس المخابرات الفرنسية السفير برنارد ايمييه بسبب اصابته بفيروس كورونا، إلا أنه شارك عبر الهاتف بمشاورات اللجنة. في الواقع انقسمت الآراء الى قسمين: الاول طالبَ بالشروع فوراً بإجراءات تطبيقية حيال ما بات يعرف بتجميد الاصول والودائع ومنع السفر، لأن المبادرة الفرنسية استنفدت نفسها، والنتيجة جاءت لتصيب معنوياً الدور الفرنسي. أضف الى ذلك انّ المسؤولين عن ولادة الحكومة غير مهتمين بالواقع الكارثي والذي ينزلق بسرعة الى كارثة تطال وجود الدولة وكيانها، وهو ما يضاعف باب الاستفادة الاقليمية على حساب مصلحة لبنان. لذلك، لا بد من استعمال العصا كي لا يستمر هؤلاء في تفسير المرونة الفرنسية بأنها ضعفاً، لا سيما انّ المصالح الشخصية لهؤلاء في اوروبا واسعة وكبيرة ومتعددة.
اما القسم الثاني، والذي وإن كان يوافق الرأي الاول حول المصالح الشخصية للاطراف السياسية اللبنانية على حساب المصلحة العامة، فهو بَدا اقل اندفاعاً واكثر تروٍ في مسألة اعلان العقوبات، من خلال طرحه اسئلة عدة في هذا المجال، مثلاً:
1 – اعلان وضع اليد على أرصدة واصول شخصيات لبنانية يتطلب الحصول على موافقة الدول الاوروبية الاعضاء، وهذا سيتطلب وقتاً ليس بقليل.
2 – من هم الاشخاص الذين سيجري تحديدهم ووفق اي معيار؟
3 – ما هي الاسباب التي سيجري الاستناد اليها لفرض العقوبات، وهل أن تهمة عرقلة ولادة الحكومة كافية لتجميد الاصول والارصدة؟
4 – هل ستؤدي خطوة من هذا النوع الى الدفع باتجاه ولادة الحكومة أم الى واقع أسوأ. وقد اعتبر انصار هذا التوجه ان العقوبات الاميركية زادت الوضع تعقيداً وتأزماً. فيما المطلوب اكل العنب لا قتل الناطور، والحرص ايضاً على عدم «قتل» المبادرة الفرنسية. وفيما لم ينتج بعد عن النقاش الحاصل أي قرار نهائي، فإنّ اعلان وزير الخارجية الفرنسية قد يدفع باتجاه الذهاب الى حصر الخطوة الاولى بمنع التأشيرات الاوروبية عن بعض الاسماء، كون اتخاذ هذه الخطوة لا يتطلب تحضيرات وموافقة من كل دول الاتحاد الاوروبي، وهو يؤدي الى توجيه اشارة حازمة في الوقت نفسه. وقد تكون لزيارة وزير الخارجية المصرية الى لبنان، والتي جرى ترتيبها على عجل، علاقة بهذا النقاش الدائر.
البعض قرأها في اطار رسالة سعودية عبر البريد المصري لدفع فرنسا لاتخاذ مواقف اكثر صرامة، خصوصاً انّ الخطر بات يتهدد ركائز الجمهورية الثانية واتفاق الطائف، وهو ما ظهر بوضوح من خلال تصريح الوزير المصري. لكن ثمة دخولاً آخر على الخط اللبناني، والمقصود هنا الولايات المتحدة الاميركية. وكي لا نخطئ التقدير، فإنّ القرار الاميركي بعدم الانزلاق المباشر في التعقيدات اللبنانية في هذه المرحلة ما يزال ساري المفعول. لكن هناك رغبة مستجدة بالمساعدة في تعزيز ودعم الضغوط الحاصلة لتأمين الولادة الحكومية، وقد يكون ذلك من خلال فرنسا. ذلك أنّ خط التشاور بين واشنطن وباريس حول الملف اللبناني شهد نشاطاً اكبر خلال الاسابيع الماضية.
صحيح انّ وكيل وزارة الخارجية الاميركية ديفيد هيل يقوم بزيارة الى لبنان بدءاً من بعد ظهر اليوم، إلا أنّ زيارته تبقى في إطار الزيارة التوديعية ولو أنها ستحمل بعض الرسائل حيال الواقع اللبناني اضافة الى التذكير بملف ترسيم الحدود البحرية.
قد تكون الرسالة الأهم في اختيار خليفته فيكتوريا نولاند التي تنتظر تعيينها رسمياً في موقعها. فبخلاف هيل الذي عمل كسفير لبلاده في لبنان والاردن وكمبعوث لبلاده في لبنان والاردن، وكمبعوث خاص للسلام في الشرق الاوسط وخَدم في بعثات بلاده في السعودية والبحرين والامم المتحدة وهو ما جعله متخصصاً وخبيراً بشؤون الشرق الاوسط، فإنّ نولاند تعتبر خبيرة في شؤون روسيا حيث شغلت موقع مساعدة وزير الخارجية لأوروبا وأوراسيا.
صحيح أنها مصنفة كمهنية من الطراز الرفيع، لكن اختيارها كخبيرة في شؤون منطقة اوراسيا بعد ديفيد هيل الخبير في شؤون الشرق الاوسط، يعطي انطباعاً واضحاً بأنّ الاهتمام الاميركي بشؤون الشرق الاوسط سيتراجع بعض الشيء لصالح التركيز على الوضع الروسي. مع التأكيد على ان التراجع في اولوية الاهتمام لا يعني ابدا الانكفاء بل ترتيب جديد لسلم الاولويات. وجاء اختيار باربرا ليف كبديل عن ديفيد شينكر في موقع مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط، ليعزز صورة اختيار اصحاب الكفاءة المهنية اكثر من الولاء السياسي.
ذلك انّ ليف، التي تتقن العربية الى جانب خمس لغات اخرى، هي اقل تطرفاً وحِدّة من سلفها ولو أن مواقفها تعتبر صلبة. فهي مثلاً تعارض الانسحاب الاميركي العسكري الكامل من العراق والمنطقة. وهو ما يعني في اختصار ان التبدّل الوحيد في السياسة الاميركية تجاه لبنان سيكون باتجاه البحث في سبل تعزيز الضغوط لتحرير ملف الولادة الحكومية، مع عدم الاستبعاد بأن يكون ذلك بالتعاون والتشاور مع الفرنسيين. فالاعتقاد الذي يتوهّمه البعض بإمكانية المقايضة بين الحكومة وضمان دوره مستقبلاً لا يبدو في محله، هذا اذا لم يكن البديل اكثر قساوة، لأنّ المنطقة كلها اصبحت امام مرحلة جديدة مختلفة عن السابق.