لن يشبه الشهرُ الفضيل أيّ رمضان عاشه لبنان على امتداد مئة عام كأنّ القرن استحضر كل أزماتها مجتمعة، واضعاً البلاد أمام «كارثةٍ تتدحْرج تحت عيون داخلٍ أصابه» العمى الاختياري «بإزاء» الخطر الوجودي، وخارجٍ إما «ينهر» المتقاعسين عن التقاط «حبْل النجاة» الدولي بحكومةِ إنقاذٍ وإما لا يمانع الجلوس على ضفة النهر منتظراً زمن التسويات الإقليمية ولو على «جثة» لبنان… الذي كان.
فرمضان 2021 يحلّ فيما الوطن الصغير يُلاطِم أعتى أزمة في تاريخه بات معها في مهبّ الريح يتجاذبه عصْف الانهيار المالي – النقدي – المصرفي – الاقتصادي الذي «سحق» أكثر من نصف اللبنانيين تحت خطر الفقر، بحيث صار «هديرُ» الجوعِ يُسابِق الفرصَ المهدورةَ لتجنيب البلاد «وليمة موتِ» صيغةٍ ودورٍ وربما… كيان.
لن تكون السياسة و«ألاعيبها» وأحجياتها غائبةً بالتأكيد عن شهر الخير والبركات الذي يطلّ كئيباً بلا بريق ولا زينة ولا قوس قزح أضواء ولا فوانيس متلألئة، ولكن الحاضر الأكبر سيكون وجع كل يوم أمام غلاء متوحّش بدّل طقوس موائد رمضان و«خطَفَ» منها أطباقاً، وحوّل تأمين أخرى معاناةً يومية، بعدما بات صحن «الفتوش» الذي صار في ذاته (منذ 2012) مؤشراً لمستوى ارتفاع الأسعار يكبّد عائلة من 5 أشخاص نحو 82 في المئة من الحد الأدنى للأجور بتكلفة نحو 555 ألف ليرة لبنانية على امتداد الشهر، هذا إذا لم تسجّل أسعار مكوّناته (من الخضار) زيادةً… متوقَّعة.
ويدقّ رمضان باب لبنان متزامناً مع ذكرى حرب 1975 التي تستعاد غداً، كما في كل 13 أبريل، وسط مجموعة مفارقاتٍ تبدأ من أن «بلاد الأرز» التي وقَعت قبل 46 عاماً ضحية ما عُرف بـ«حرب الآخرين على أرضها» تدفع هذه الأيام ثمن خوض بعض الأطراف الوازنين فيها «حروب الآخرين على أراضي آخرين»، ولا تنتهي بتسارُع وتيرة «السقوط في جحيمِ» الانهيار الشامل الذي تكاتفتْ في بلوغِه عوامل الفساد المالي والإداري كما السياسي.
ولم يَعُد مستغرباً أن «تتعايش» في يوميات اللبنانيين أحوالُ المأزق الحكومي وتعقيداته التي تتقاطع فيها اعتباراتٌ محلية وإقليمية، مع أهوالِ الأزمات المعيشية التي تعبّر عن نفسها بأكثر من صورة… بمشاهد طوابير المواطنين أمام الأفران للحصول على الخبز، أو محطات البنزين «الخارجة عن الخدمة» في كل بيروت مثلاً بسبب نفاذ المحروقات (ريثما تفرغ باخرة اليوم)، أو بفيديوات لمواطنين يبْكون على الشاشات «بدنا نعيش» وآخَرين «تبتلعهم» أقنية الصرف الصحي (كما حصل مع شخص في محلة الروشة) التي صارت أفخاخاً بعدما سُرقت غالبية أغطية الريغارات لبيعها بالدولار الطازج، أو بتحركات للأطباء والجسم التمريضي (كما في مستشفى الجامعة الأميركية) رفضاً لاعتداءات متكررة تعرّضوا لها على خلفيات عدة بينها ارتفاع فواتير الاستشفاء، قبل تهديد طبيبيْن مقيميْن يعملان فيها من إحدى العشائر على خلفية وفاة أحد أبنائها بـ«كورونا» ما اضطر الأخيريْن للانتقال مع عائلتيْهما من منزليهما.
وفي حين تخشى أوساط سياسية في ضوء هذه المَظاهر من «نفاد صبر» اللبنانيين وانزلاق البلاد إلى اضطراباتٍ وفوضى لا يُستبعد أن تنفلش على وقع عودة سعر صرف الدولار في السوق الموازية للارتفاع إلى ما فوق عتبة 13 ألف ليرة، رأت أن هذا الواقع القاتم لا يبدو بكل ما يختزنه من مخاطر عالية كفيلاً بتسريع الخروج الشاق من النفق الحكومي الذي، وعلى العكس، يزداد آخِره انسداداً على وقع تراشُق بـ«الأسلحة الثقيلة» سياسياً على جبهة فريقيْ رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري وارتسام معادلة «التدقيق الجنائي أولا» (في حسابات مصرف لبنان وفق طرح عون) «على تخوم لعبة» مَن يصرخ أولاً بينه وبين زعيم «المستقبل».
وإذ لم يظْهَر انطلاقاً من «حرق المراكب» المتمادي بين عون والحريري أن تهديد باريس، باسم أوروبا وبتنسيقٍ مع واشنطن، بعقوباتٍ وشيكة على معرقلي تأليف حكومة المَهمة من الاختصاصيين غير الحزبيين فعلتْ فعلها، وهو ما عَكَسَ أن أي تراجعاتٍ داخلية نحو مربّعات التسوية لن تكون ممكنة قبل انطلاق عربة الملف النووي الإيراني، برز أمس موقفان بالغيْ الأهمية:
– الأول للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي عاكَس فيه بوضوح موقف الرئيس عون، معلناً «الفعل الإيجابي أن ألِّفوا حكومة للشعب من دون لف ودوران. ألِّفوا حكومة واخجلوا من المجتمعين العربي والدولي ومن الزوار العرب والأجانب. إن جدية طرح التدقيق الجنائي هي بشموليته المتوازية لا بانتقائيته المقصودة. وأصلاً، لا تدقيق جنائياً قبل تأليف حكومة»، مضيفاً في غمز من «حزب الله»: «حري بجميع المعنيين بموضوع الحكومة أن يكفوا عن هذا التعطيل من خلال اختلاق أعراف ميثاقية واجتهادات دستورية وصلاحيات مجازية وشروط عبثية، وكل ذلك لتغطية العقدة الأم وهي أن البعض قدّم لبنان رهينة في الصراع الإقليمي- الدولي»، وختم: «البعض يريد أن يزداد الوضع سوءاً كي يفتقر الشعب أكثر ويجوع، فييأس أو يهاجر أو يخضع أو يقبل بأي تسوية، وتتم السيطرة عليه وعلى الدولة (…) لن يرهب التهويل شباب الثورة الحضارية وشاباتها (…) وها أن فكرة عقد مؤتمر دولي خاص بلبنان تشقّ أيضاً طريقها في المحافل الدولية».
– والثاني لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان الذي وجّه رسالة إلى اللبنانيين لمناسبة حلول رمضان المبارك، قال فيها: «رمضان هذا العام، ليس ككل الأعوام، بل ربما لم يشهد المواطنون ضيقاً شديداً في معايشهم وتحركاتهم مثلما يشهدون هذه الأيام. إنه زمن الانهيار الشامل في كل المجالات، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الأولى، ينهار مع نظام العيش: النظام المصرفي الذي كنا نظنه مستقلاً وآمنا ومأموناً، وغير تابع لأهواء الحاكمين؛ يا رب، ماذا نفعل؟ وإلى مَن نتوجه وسط هذا الحصار، ليس من جانب الخارج، بل من جانب نظام القلة الفاجرة؟»
وأضاف: «هل هو مطلب عسير أن تكون في البلاد حكومة مسؤولة؟ مضت شهور طويلة، وهناك مَن لا يزال يتحدث عن الأصول الدستورية، والشراكة الكاملة بين التشكيل والإصدار، والثلث المعطل وأنواع الوزارات».
وإذ توجه إلى معرقلي تشكيل الحكومة: «كفاكم تعنتا واستكباراً وتصلباً وتزويراً وخرقاً للدستور»، لافتاً إلى «أيادٍ خبيثة تعمل في الخفاء على عرقلة الجهود العربية الشقيقة المشكورة، وإفشال المبادرة الفرنسية، وتحاول القيام بعملية ابتزاز سياسي لا مثيل له»، ختم موجهاً نداء «الرجاء والاستغاثة والأمل إلى الأخوة العرب»: «تعوّدنا ألا تنسونا في الشدائد، فلا تتخلوا عنا ولا تتركوا الشعب في ضياعه، كي لا يكون فريسة سهلة لمن يريد بلبنان واللبنانيين شراً».