كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
يزايدُ أركان المنظومة السياسية جميعاً، بعضُهم على بعض، بوقوفهم ضد الفساد. وهذا ما يثير الاستغراب: إذاً، هذا الفساد المتمادي منذ عشرات السنين، والذي أوصل لبنان إلى أسوأ انهيار مالي واقتصادي وسياسي وإداري، مَن المسؤول عنه، ولماذا يستمرّ؟
«ميزة» الفساد اللبناني أنه مفضوح تماماً. لكن أحداً لا يريد أن يراه:
1 – اللبنانيون جميعاً يعرفون أين هو الفساد ومَن هم الفاسدون. لكنهم يرضخون للأمر الواقع، إمّا بسبب شعور البعض بالعجز، وإمّا لأن البعض الآخر مستفيد من الفساد. لكن الأشدَّ مرارةً هو أن الغالبية يبرِّرون الفساد لزعيمهم. وكثيراً من تُسمَع عبارة: «صحتين عَ قلبو. كلّهن عم يسرقوا».
2 – القوى السياسية نفسُها تدرك تماماً أين ارتكبت هي أو حلفاؤها أو خصومها موبقات الفساد التي لا تُعَدّ ولا تُحصى على مدى عقود. وهؤلاء جميعاً شركاء في المنافع و»قابرينو سوا». ولذلك، يغطّي كل منهم الآخر، ولو اختلفت الولاءات والمصالح السياسية، لأن انكشاف أحدهم يسهِّل انفضاح الجميع.
3 – القوى العربية والدولية تدرك، وبالأرقام والوقائع، ومنذ عشرات السنين، كيف سُرِقت أموال اللبنانيين خصوصاً بعد الطائف، في ظل حكوماته ومجالسه، وبتغطية من سلطة الوصاية السورية
وهذه القوى تهدِّد اليوم منظومة السلطة بالعقوبات إذا لم تستجب لضرورات الإصلاح، بعدما وَفّرت التغطية لها طويلاً، وأتاحت استيلاءها على الموارد. وهذه القوى العربية والدولية لم تدعم قوى التغيير آنذاك، وحتى شاءت المصالح ولادة «ستاتيكو» جديد في ربيع 2005.
4 – الجهات والمؤسسات الدولية المانحة (البنك الدولي وسواه) تعاطت مع الإدارات اللبنانية الفاسدة وموَّلت مشاريعها على رغم إدراكها أنها فاسدة.
إذاً، الكل يعرف الكل في عالم الفساد، لكن كل طرف يختار الكلام على النظافة حيث يناسب ذلك مصالحه:
– السياسيون يتراشقون التُهَم بالفساد ويتبرَّؤون منه.
– المناصرون يُستثارون طائفياً ومذهبياً عندما يتعرَّض زعيمهم للمساءلة.
– القوى الدولية والعربية تنادي بمحاربة الفساد اللبناني، ولكن من منطلق سياسي. فالولايات المتحدة تريد من الإصلاح خصوصاً إبعاد نفوذ «حزب الله»، وفرنسا تهادن «الحزب» وتعتبره جزءاً من السلطة، على رغم كل شيء.
– البنك الدولي يتساهل في تمويل المنظومة، على رغم الشكوك في طريقة صرف الأموال، كما في قرض الـ264 مليون دولار.
الاستنتاج هو أن الجميع في الداخل والخارج يستخدم عنوان الفساد اللبناني غبّ الطلب وبناء على المصالح لا المبادئ. ولذلك، مضى عام ونصف العام على انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وعلى بدء الانهيار الحقيقي، ولا أحد يعرف لماذا لم تعتمد منظومة السلطة أي إجراء في اتجاه الإصلاح.
كان يمكن القول إنه خطأ متمادٍ ترتكبه منظومة السلطة، أو هو الهوَس بالمنافع والتهرُّب من المحاسبة. ولكن، هناك دلائل إلى ما هو أشدّ خطراً. فسلوك العديد من الزعماء يوحي بأنهم منخرطون في مخططات إضعاف لبنان أو إسقاطه، خدمةً لمحاور خارجية.
يُفترض أن يكون المرء ساذجاً جداً ليقتنع أن كل هذا الفساد هو نتيجة لانعدام الرؤية أو الإهمال فقط، خصوصاً في الأعوام الـ4 الأخيرة، لأن القوى المعنية بالشأن اللبناني، والتي صمتت طويلاً على الفساد، قرعت جرس الإنذار ولا تزال، بحيث يستحيل القول: «لم أكن أعرف».
– في المرحلة الأولى، 2016 – 2018، نقل الأميركيون وحلفاؤهم الأوروبيون والسعوديون تحذيراتٍ وأجواءَ استياء من مسار الفساد وسيطرة إيران. وبلغت الذروة في استقالة الرئيس سعد الحريري في الرياض، 4 تشرين الثاني 2017.
آنذاك، استعان الحريري بصديقه الفرنسي إيمانويل ماكرون للخروج من الورطة، وأطلق وعداً للسعوديين والأميركيين بتغيير النهج. لكن ذلك لم يتحقق. وسارع ماكرون إلى منح لبنان فرصة جديدة من خلال مؤتمر «سيدر» في ربيع 2018، حيث مُنِح لبنان 11 مليار دولار، شرط تغيير النهج. لكن شيئاً لم يتغيّر، وانقطعت «حنفية» الدعم نهائياً، وكان ذلك بداية الدخول في الانهيار عملياً.
– في المرحلة الثانية، من 2018 وحتى اليوم، وقع الانهيار المالي والاقتصادي والسياسي. وفي مقابل الضغط العربي والدولي، يتصرّف «حزب الله» على قاعدة أنه صامد ولو انهار البلد. أي انّ الانهيار أصبح ورقةً يحتاج إليها كل محور في معركته السياسية، أياً كانت الأكلاف.
هنا، تظهر أسئلة عن مغزى الكثير من سلوكيات السلطة المعتمدة بعد 17 تشرين: لماذا لم يُعتمد قانون لـ»الكابيتال كونترول» الذي يمنع تهريب مليارات الدولارات ويحافظ على قدرات أكبر للقطاع المصرفي؟ ولماذا الخبث في إهدار مليارات الدعم التي جرى تهريبُها، وما مصير الأموال التي كانت توزَّع يومياً عبر الصرّافين؟ وما الخلفيات الحقيقية لقرار عدم تسديد سندات «اليوروبوندز»؟
أيضاً، لماذا لا تُقَرّ خطة مالية يتمّ التفاوض عليها مع صندوق النقد الدولي؟ ولماذا يتعطَّل التدقيق في المصرف المركزي والمرافق الأخرى والوزارات؟ ومثل ذلك، عشرات الأسئلة التي يُفترض أن تكون الإجابة عنها بسيطة، لولا الخلفيات المبيّتة للتعطيل.
وثمة مَن يجزم أن نيّات التعطيل السياسي والانهيار المتعمد، لغايات خارجية، تكمن بقوة وراء كل ما يجري. فالجميع يدرك أن مسار الفساد سيقود إلى انهيار الدولة ويجعلها رهينة الخيارات الخارجية. وفي مقابل ضغوط الولايات المتحدة والغربيين والخليجيين العرب، هناك إيران ونظام الرئيس بشار الأسد.
ولكن، في النهاية، هناك «شريك مُضارب» جاهز للانقضاض في لحظة الخراب، وقطف ثمار السقوط اللبناني أيضاً، وهو إسرائيل التي تتحيَّن الفرص لإمرار مشاريعها القوية على حساب الكيان اللبناني الضعيف إلى حدّ التلاشي الكامل.