كتب المحامي حسن بيان في “اللواء”:
فتحت حادثة اقتحام النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون لمقر شركة «مكتف» في عوكر النقاش واسعاً حول الحالة التي وصل اليها المرفق القضائي كسلطة ثالثة في نظام يقوم على أساس الفصل بين السلطات. وهذه ليست المرة الأولى التي تثير القاضية عون زوبعة حول ملفات وضعت يدها عليها وثبت انها تحركها غب الطلب. لكن ما ميز الحادثة الأخيرة انها حصلت في لحظة تجاذب حاد حول الصلاحيات في التصدي للملفات بحسب الاختصاص النوعي. اذ ان النظام القضائي اللبناني حدد بوضوح الاختصاص المنعقد للمحاكم، ولم يترك مجالاً للالتباس او الاجتهاد لانه لا اجتهاد في موضع النص. لكن ما حصل يومي الجمعة والسبت ١٦ و١٧نيسان، من خلال المشهدية التي اطلت من خلالها القاضية عون في مداهمتها لمقر شركة «مكتف» هو مشهد غير مألوف في الملاحقات القضائية. واذا كانت الجولة الأولى من المنازلة قد جرت قبل اصدار النائب العام التمييزي لقراره الذي قضى بكف يد القاضية عون عن الملفات التي تمسكها وقضى بتوزيع هذه الملفات على ثلاث قضاة اخرين، فإن الجولة الثانية حصلت بعد صدور القرار.
هذا القرار اتخذه النائب العام التمييزي سنداً للمادة ١٣ من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تمنحه صلاحية توزيع العمل على قضاة النيابات العامة وتوجيه التعليمات لقضاة النيابة الذين عليهم تنفيذ الأوامر الصادرة اليهم من رؤسائهم، باعتبار ان القاضي هو موظف وهو يعمل باشراف رئيسه المحدد بحكم القانون. وان الامر الوحيد الذي لا تتدخل به النيابة العامة التمييزية في سير اعمال قضاة النيابات العامة الاستئنافية ومنها اعمال النائب العام الاستئنافي هي المرافعات امام محاكم الجنايات.
ان القاضية غادة عون في ما أقدمت عليها ارتكبت مخالفتين. المخالفة الأولى، انها وضعت يدها على ملف يعود النظر به الى القضاء المالى، وبالتالي ان سلطة الادعاء والملاحقة بالملفات المالية تعود للنيابة العامة المالية. علما ان هذا الملف الذي تتخذ إجراءات ملاحقة بشأن اشخاصه هو قيد النظر امام مرجع قضائي اخر هو الهيئة الاتهامية في بيروت بعد استئناف النيابة العامة في بيروت قرار منع المحاكمة عن المدعى عليهم. ولذلك لا يجوز السير بملف قضائي تجري متابعته امام مرجع قضائي اخر. وهذه امر بديهي وتدركه القاضية عون جيداً.
المخالفة الثانية، ان القاضية عون وهى موظفة برتبة قاضٍ لا يمكنها ان تمتنع عن تنفيذ امر او قرار اداري موجه اليها من مرجع اعلى وهو الرئيس المباشر لها.
ان القاضية عون باقدامها على تصرفها المنطوي على هاتين المخالفتين، تجاوزت القانون وهي التي يفترض ان تكون الأكثر حرصاً على تطبيق القانون. لكن هذا الامر يصح عندما تكون هناك سلطة للقانون، اما اذا انعدمت او تلاشت او غلت اليد التي يفترض بها ان تطبق القانون، فعندها لا يعود الامر خاضعاً للمقاييس القانونية وانما مقاييس أخرى. وهي في ظل واقع لبنان الحالي هي مقاييس السلوك الميلشيوي الذي يستبطن الحكم والعقل السلطوي.
ان الذي حصل في عوكر وبغض النظر عما اذا كانت الشركة التي تمت مداهمتها مرتكبة مخالفة تستوجب الملاحقة ام لا، انما هو عمل اقل ما يقال فيه بأنه عمل ميلشيوي، يضع مرتكبوه اياً كانت صفتهم امام المساءلة القانونية.
لقد كان على القاضية عون ان تلتزم بتوجيه وقرار النائب العام التمييزي، واذا كان لها اعتراض عليه فبامكانها ان تطعن به بتقديم مراجعة ضده وفق السياقات القانونية والادارية وليس من خلال الشارع. فالاعتراض على قرار اداري من مرجع مخول بالاتكاء على الشارع يتناقض ومبدأ سير المرفق العام. لهذا فان القاضية عون ومن خلال ما قامت به انما وجهت رسالة لمن يعنيهم الامر بانها لا تعمل وفقاً لتوجيه مرجعيتها القضائية العليا وانما تعمل وفقاً لاملاء مرجعية سياسية افصحت عن نفسها دون ان تسميها. وبهذا قدمت دليلاً على ان القضاء في لبنان لا يمارس دوره باستقلالية وانما ينفذ اجندة القوى السياسية التي توجه محازبيها في السلك القضائي. وطبعاً هذا ما يفسر عدم إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، كما تفسير عدم اصدار مرسوم التشكيلات القضائية واحتجازه في ادراج القصر الجمهوري كي تبقى القاضية عون في موقعها الذي تدير وتحرك من خلاله الملفات التي تخدم الفريق السياسي الذي يوفر الحماية لها.
اذا كان موقف القاضية عون قد أسس لمشكلة في ادارة المرفق القضائي، فهذه الإشكالية لم تقتصر عليها وحدها، اذ ثمة إشكالية أخرى برزت من خلال موقف وزيرة العدل بما هي سلطة وصاية على هذا المرفق الحيوي وهي التي يجب ان تتصرف باعتبارها في موقع المسؤولية الرسمية، وليس وكأنها في موقع المعارضة بحيث لم يكن ينقصها الا دعوة بعض من لبى دعوة القاضية عون الى مؤازرتها في منازلة عوكر الأولى والثانية للاعتصام امام وزارة العدل لاطفاء الطابع الشعبوي على موقفها.
ان وزيرة العدل التي قدمت نفسها على انها ليست مع فريق ضد اخر لم يظهر من خلال ما ادلت به انها هكذا، بل قدمت نفسها على انها مع الفريق الذي عطل اصدار التشكيلات القضائية، ولم تدافع عن انتظام العمل الإداري وضوابطه والف بائه التزام الموظف الادني بتوجيه الموظف الأعلى.
ان الذي حصل في عوكر وما اعلن من وزارة العدل كان النقطة التي طفح الكيل بها، حيث جاء خرق القانون وتجاوز احكامه التطبيقية من المرجعية القضائية التي يفترض ان تكون حارسة للقانون، وجاء من المرجعية السلطوية التي يفترض بها ان تكون سلطة الاشراف على تنفيذ القانون. ان هذا لم يحصل، بل الذي حصل هو تظهير المشهد الأخير من الانهيار الكبير الذي يشرف على تنفيذه العهد القوي الذي وظف قوته إِعمال الهدم للبنيان الوطني من جراء تغطيته لعامل التثقيل الإقليمي الذي قوض البنيان الوطني لتوفير فرصة للبنانيين الوقوف على اطلاله. بئس هذا الحكم وبئس قضاته الذين يستوطن عقلهم السلوك الميلشيوي