كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
العهد في أزمة. الانهيار المالي يتواصل، ولم ينجح حتى اللحظة بتأليف حكومة بشروطه، وفشل في دفع الرئيس المكلّف سعد الحريري إلى الاعتذار، ويرفض التعاون معه أساساً، وعواصم القرار تحمِّله مسؤولية الأزمة، ويعيش هاجس العدّ التنازلي لانتهاء الولاية، فما الذي يمكن ان يلجأ إليه؟
سكرّت مع العهد من كل النواحي و«الميلات»، وآخر المحاولات كانت مع التهديد الذي لجأ إليه السيد حسن نصرالله في «يوم الجريح»، متبنياً وجهة نظر الرئيس ميشال عون بالتأليف وبتعديل دستوري يحدِّد مدة التكليف زمنياً وملمحاً باللجوء إلى خيارات أمنية، وعندما وجد انّ تهديده لم يفعل فعله، ترك حليفه يتخبّط في أزماته، لأنّه ليس في وارد ان يذهب أبعد من ذلك، ولجأ إلى تحصين بيئته على طريقة «بطيخ يكسِّر بعضو»، فإذا عولجت الأزمة يكون من المستفيدين، وإذا لم تُعالج تكون بيئته صامدة، لأنّ أولويته تبقى في الحؤول دون انفجار هذه البيئة وانعكاس تطور من هذا القبيل على وضعيته وتركيبته.
ولا يبدو انّ «حزب الله» يريد ان يذهب أبعد من ذلك، فلا هو يريد ان يصطدم بالرئيس نبيه بري الداعم بقوة للرئيس الحريري، ويتجنّب العودة إلى حقبة المواجهة مع «المستقبل» لاعتبارات شيعية- سنّية، وغير قادر على إلزام عون بالتنازل، وحيال هذا الاستعصاء المثلّث وجد انّ الحلّ الأنسب في الوقت الضائع يكمن في تحصين بيئته، قطعاً للطريق أمام ما يعلنه عن وجود محاولات لاستهدافه عن طريق تفجير هذه البيئة اجتماعياً.
وفي موازاة الحزب، لم تنجح المساعي الخارجية في كسر حلقة الفراغ، فباءت المساعي الفرنسية والمصرية بالفشل. وتقصّد الرئيس عون ان يفتح مواجهة التدقيق الجنائي، بعد ساعات على لقائه وزير الخارجية المصري سميح شكري، الذي فاتحه باتهامات توجّه للعهد عن سعيه للإطاحة باتفاق الطائف، فردّ بالتصعيد جنائياً وباتهام الحريري بالمثالثة وإجهاض المسعى المصري وضرب الدينامية الدولية.
ولن تنجح روسيا حيث فشلت فرنسا ومصر، واللقاءات في موسكو لن تخرج عن سياق الحث والتمني، والعقوبات الأوروبية ما زالت إعلامية، وحتى لو تحولت إلى عملية فلن تقدِّم ولن تؤخِّر، لأنّ أنظار العهد شاخصة نحو الموقف الأميركي، واي بيع وشراء يمكن ان يلجأ إليه العهد هو مع واشنطن التي تفرض العقوبات على رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، وموقفه من ترسيم الحدود البحرية جنوباً يدخل في هذا الإطار، وعدم تعليق «حزب الله» على موقف حليفه الذي وضع المرسوم المعدّل على الرف، يندرج في سياق «قبط باط» مقصودة، لمنحه فرصة ترميم الثقة مع واشنطن تمهيداً لرفع العقوبات عن باسيل، خصوصاً انّ الحزب يميِّز بين المفاوضات الورقية التي لن يوفِّر فرصة إدخالها في تعقيدات ودهاليز المباحثات المفتوحة التي لا تصل إلى أي نتيجة، وبين كونه القوة العسكرية على الأرض التي تسمح او لا تسمح في تطبيق اي مرسوم او قرار، والحدود لن تُرسّم سوى بقرار إيراني، باعتبارها الحدود الإيرانية الوحيدة مع إسرائيل.
وفي ظلّ تقاطع عون والحريري على العنوان الأوحد المشترك بينهما، وهو عدم التأليف بشروط الآخر، حيث لا يبدو الحريري مستعجلاً للتأليف، وهو يكسب سنّياً ودولياً بسبب ممانعته ومواجهته لعون، ولا يبدو عون في وارد الموافقة على حكومة لا تضمن له نفوذه في الربع الأخير من الولاية وما بعدها، وبما انّ تأخير التأليف يستنزف الوقت المتبقّي للعهد، فإنّ الأخير يدرس من دون شك الخيارات المتبقية أمامه لقلب الطاولة واسترداد المبادرة. ففي حال وجد انّ الوضع المالي يسمح باستمرار الحكومة المستقيلة حتى نهاية عهده، لن يتأخّر بتبنّي هذا التوجّه، ولكن عدم الانفجار لا يعفيه من مسؤولية استمرار الأزمة، وبالتالي، الخيار الوحيد الذي قد يلجأ اليه هو «عليّ وعلى أعدائي»، تأسيساً على تجاربه التاريخية.
وهناك من يرى انّه من خلال هذا الخيار الذي يمثِّل صورة منقحّة عن سيناريو عامي 88 و 90، يستطيع إما ان يضغط على الحريري للاعتذار، لأنّه لا يريد ان يتحمّل مسؤولية الفوضى والقلاقل والمشاكل والدمّ الذي يمكن ان يسقط، وإما ان يوافق الرئيس المكلّف أخيراً على شروط رئيس الجمهورية تجنيباً للبلاد ما هو أسوأ، وإما ان تنزلق الأوضاع فعلاً نحو الفوضى، فتُنقل الصورة وتتحوّل من استمرار العهد تحت مجهر إدانة الناس، إلى فصل جديد من الأزمة، يُصبح همّ المواطن فيه تدبير شؤونه على اي اعتبار آخر.
فالمشهد الحكومي أُقفل تماماً، ولَم يعد تأليف الحكومة ممكناً عن طريق الوساطات الداخلية، ولا متاحاً من خلال المبادرات الخارجية، وبالتالي لم يبق سوى الفوضى، فإما ان تكون مدخلاً لخلط الأوراق والتأليف بقواعد وشروط جديدة، وإما ان تكون ممراً لفصل جديد من الأزمة، مفتوحة على شتى الاحتمالات، وما تشهده البلاد أخيراً يشكّل مقدّمة نحو هذه الفوضى. فهل لم يعد فعلاً من خيار ووساطة ودور للخارج إلّا الفوضى؟ وهل أُعدمت المخارج السياسية لمصلحة احتمالات كارثية؟ وهل استُعيض عن خيار التأليف بخيار الفوضى لفتح الاحتمالات على غرار 7 أيار 2008؟ وهل سيبقى العهد في مرحلة ردّ الفعل وعدّ الضربات، أم سيقلب الطاولة ويبدِّل الصورة، وكيف؟ وهل بدأ العد العكسي للفوضى؟ وهل تتحوّل الفوضى إلى خيار للخروج من ستاتيكو الفراغ الذي لا يناسب العهد الذي يتآكل بفعل عامل الوقت ويخشى من ان تضعه الضغوط أمام خيار ترك الرئاسة؟ وهل يراهن انّ الفوضى الآتية حكماً ومن دون دفع من أحد، في حال لم تتألف الحكومة، ستدفع إلى حلّ الأزمة بشروطه، كونها ستستدعي تدخلاً دولياً سريعاً لإنهاء هذه الفوضى على قاعدة أنّ الأولوية الدولية إبقاء لبنان معلقاً بانتظار مصير المفاوضات مع إيران؟
فلننتظر… لنرَ.