كتب نديم قطيش في “الشرق الاوسط”:
بمجرد شيوع خبر اغتيال قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، مطلع عام 2020 تراكض الشبيبة العراقيون، وأغلبهم شيعة، إلى خارج خيامهم للاحتفال. كان مر على انتفاضتهم نحو ثلاثة أشهر قضوا معظمها في الخيام والساحات ضمن ما يعرف «بانتفاضة أكتوبر»، ورفعوا خلالها أشرس عناوين الاعتراض على الهيمنة الإيرانية، وصولاً إلى إحراق صور خامنئي في معاقل الأحزاب الشيعية في كربلاء والنجف.
بدا العراق وكأنه يشهد انتفاضة شيعية (في الغالب)، على إيران، سرعان ما وجدت صداها في الداخل الإيراني الذي انتفض بدوره ضد تبديد مقدرات الإيرانيين الشحيحة على العراق وغزة ولبنان، قبل أن يواجَه بأعتى سياسات القمع التي وثقتها وكالة «رويترز» بتقرير يفيد بمقتل 1500 متظاهر إيراني بأوامر مباشرة من المرشد.
أما في لبنان، فقد بقي الاعتراض الشيعي على حال الانهيار التي وصلت إليها البلاد يختصر ببؤر صغيرة في جنوب لبنان، وأحياناً في الضاحية الجنوبية لبيروت. طغى الاعتراض المدني والمديني على العاصمة، ورفع المتظاهرون شعار «كلن (كلهم) يعني كلن (كلهم)»، كأنهم يحاذرون الاصطدام بـ«حزب الله» أو كأنهم ملوا من تحميل مكونات المافيا مسؤولية الانهيار لـ«حزب الله» وحده كوسيلة تهرب من تحمل المسؤولية.
مع ذلك يبقى السؤال مشروعاً: لماذا لم ينتفض شيعة لبنان بمثل ما انتفض شيعة العراق بعناوين مباشرة وصريحة مضادة للهيمنة الإيرانية. بين يدي عدد من الأسباب.
1 – التعدد: بخلاف لبنان، حيث يهيمن حزب واحد على مقاليد التحكم بالشيعة، ولو لونها بتضليل الثنائي الشيعي، أي حركة «أمل» و«حزب الله»، تتسم الساحة الشيعية العراقية بالكثير من التعدد. فمن جهة، ثمة عائلات شيعية راسخة في الزعامة الدينية والاجتماعية والسياسية لاحقاً كآل الحكيم والصدر والخوئي، بالإضافة إلى أحزاب وميليشيات شيعية تمخضت عن الأحزاب والميليشيات التقليدية إبان المعارضة الشيعية لصدام حسين، ونخب ومراكز قوى تفرعت عن حزب الدعوة، الحزب الشيعي الأبرز في تاريخ الحركة السياسية الشيعية.
يتصارع هؤلاء منذ سقوط نظام صدام على رؤى سياسية متناقضة لمستقبل العراق، ويتنازعون كماً من المصالح المادية والمعنوية التي تبقى الساحة الشيعية شديدة التنوع وصعبة على التحكم فيها وإدارتها، كما يدير حسن نصر الله شيعة لبنان. ويتيح هذا التعدد بدوره إمكانات التفلت من عوائق القرار الواحد والتوجه الأوحد، من دون المخاطرة بالتعرض لتهم التخوين والعمالة.
2 – السيستاني: في حين تختصر إيران إلى حد كبير شيعة لبنان، وتهيمن مرجعية علي خامنئي، معنوياً، على الوجدان الشيعي، بصرف النظر عن أعداد المقلدين لخامنئي أو لغيره، توجد في العراق مرجعية دينية لا غبار على صفاتها العلمية والروحية هي مرجعية السيد علي السيستاني في النجف. وجود مرجعية السيستاني بمواقفها المعترضة كل حين على سياسات إيران في العراق، يتيح للعراقيين التفلت من خطاب الهيمنة الإيرانية، من داخل الانتماء إلى المذهب لا من خارجه. ولئن أدرك «حزب الله» في لبنان خطورة وجود عمامة شيعية موثوقة ورصينة تشكل رافعة للخطاب السياسي الشيعي المعترض وتحميه من تهم التخوين والعمالة، سارع باكراً بعد عام 2005، إلى ضرب الصوت الأبرز لهذه المجموعة وهو السيد علي الأمين مفتي صور، وأمعن في مطاردته حتى اتهامه بالعمالة لإسرائيل والتطبيع معها. تعمد «حزب الله» ألا يوفر للشيعة المعترضين غطاءً شرعياً دينياً يستترون به، وتقصد مصادرة التشييع بصوره كافة، بحيث لا يغدو الشيعي شيعياً إلا بمدى التصاقه بخط السياسة الإيرانية وتحت مسمى المقاومة. وهذا يوصلنا إلى النقطة الثالثة.
3 – المقاومة في لبنان: بخلاف شيعة العراق الذين لا تمتلك الأحزاب الإيرانية في وجوههم شماعة إسرائيل، يختصر «حزب الله» عنوان المقاومة، ويجعل من كل خلاف معه استفتاءً على الخيار بين خط المقاومة والخط الإسرائيلي، في لعبة ابتزاز مقيتة ومقززة، لا يتعرض لها العراقيون بالحدة نفسها. في العراق تغذت الهوية الوطنية العراقية عند الشيعة بعد الثورة الخمينية من إفرازات وديناميات الحرب الإيرانية – العراقية، في حين تغذت مثيلتها اللبنانية من فكرة المقاومة وقتال إسرائيل. وقد نجح «حزب الله» في جعل أي اعتراض عليه وعلى سياسته يبدو وكأنه طعن في ظهر المقاومة. في العراق لم تنجح الأحزاب الشيعية في تأسيس «تابو» مماثل كالمقاومة في مواجهة أميركا مثلاً، حيث إن النخبة الشيعية لم تتحكم في العراق إلا بسبب الدبابات الأميركية، ولم تصل إلى السلطة إلا بسبب التسويات التي عقدتها أميركا مع إيران. بل تآمر الإيرانيون والأميركيون معاً على ضرب خيارات الشعب العراقي حين انتخب العراقيون عام 2009 إياد علاوي كصاحب أكبر كتلة برلمانية فيها أُهدي منصب رئيس الحكومة لنوري المالكي.
4 – على الرغم من أن لبنان والعراق يتشاركان تجليات الانهيار الاقتصادي والاجتماعي نفسها على مستوى الخدمات والعملة الوطنية والتضخم والتآكل المديني، فإن المسؤولية الإيرانية في العراق أوضح بكثير منها في لبنان. فالأحزاب الحاكمة في العراق، خارج كردستان، هي الأحزاب الشيعية الدينية التي تديرها إيران كلياً أو جزئياً. بهذا المعنى، فإن الانهيار في العراق هو مسؤولية مباشرة لهؤلاء ولراعيهم الإيراني في حين أن الانهيار في لبنان يقع على عاتق تحالف معقد بين المافيا والميليشيا، ويتيح لكل مكون فيه أن يختبئ خلف أخطاء المكون الآخر في لعبة دخان ومرايا لا تتيح توجيه الغضب إلى إيران وجماعتها بشكل حصري.
وعليه، يحترف «حزب الله» وحلفاؤه لا سيما فريق رئيس الجمهورية ميشال عون تحميل مسؤولية الانهيار للسياسات الليبرالية والنيو ليبرالية (ترد هذه المفردات هنا كاتهامات وليس معطيات علمية) التي انتهجها الرئيس الراحل رفيق الحريري وورثته من بعده.
ويرتاح «حزب الله» لأن يكون المسيحي هو رافعة هذا الخطاب في وجه السنة في لبنان كي لا يسقط في فخ الاستفزاز الطائفي المضر له قبل غيره. فيصير ممنوعاً على الشيعي قبل غيره تحميل «حزب الله» المسؤولية؛ لأن الاعتراض طعن في المقاومة، وممنوع عليه قبل غيره تحميل «حزب الله» وإيران المسؤولية؛ لأن الفشل في لبنان من نصيب الليبرالية الاقتصادية التي يمثلها حليف السعودية وليس حليف إيران.
5 – الرومانسية الإيرانية: ما سمح لشيعة العراق بالانتفاض ضد إيران ومنع ذلك عن شيعة لبنان، هو الاتصال الجغرافي بين الحواضر الشيعية العراقية وإيران والانفصال الجغرافي بين لبنان وإيران.
في مساحة الانفصال هذه نمت في مخيلة شيعة لبنان صورة عن إيران، مختلفة عن تلك الصورة التي احتك بها العراقيون بعد سقوط صدام حسين. اكتشفوا خلال زياراتهم، إيران أخرى خارج الصورة النمطية للتدين والتشادور والحسينية ومجالس العزاء.
أسقط هذا التواصل صورة نمطية رومانسية عن إيران من أذهان العراقيين، في حين لم تسقط من أذهان شيعة لبنان. وفي حين يطالب الشيعة العراقيون بطهران أخرى رأوها وتفاعلوا معها يكتفي اللبنانيون بطهران المتخيلة التي يختصرها الحرس الثوري بغضبه وسوداويته واستعداده للموت وآيديولوجيا الفداء والمقاومة.
كما أن الاتصال الجغرافي كشف للعراقيين كيف أن بلدهم يتعرض للنهب المباشر من إيران بخلاف لبنان المنهوب عبر آليات مختلفة.
أما بعد، فقد تبدل هذا المشهد كثيراً بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2019، بحيث اتسعت المساحة الوطنية التي ترى بوضوح حجم مسؤولية «حزب الله» والسياسات الإيرانية عن الانهيار الذي وصل إليه لبنان بالتحالف مع معظم من يدعون خصومة «حزب الله» سياسياً، ويتقاسمون ويتحاصصون معه نهب الدولة ومقدراتها.