كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
المخاوف من ارتفاعات جنونية في أسعار السلع في حال رفع الدعم، قد يكون مبالغاً فيها. هذه الفرضية لا تنطلق من الحقيقة “الوحشية” بأن الإقتصاد يعدل نفسه بنفسه فحسب، إنما من توقف التهريب والتخزين أيضاً اللذين يمتصان حوالى نصف المبالغ المدعومة. وإذا أضيف الدعم المباشر للعائلات والأسر بالدولار فإن نتائج رفع الدعم قد لا تكون كارثية كما نتصورها.
في ظل “عقم” الحكومة عن تقديم خطة واضحة لرفع الدعم، ينفتح المجال أمام سيناريوين لا ثالث لهما. الأول، يفترض ترشيد الدعم بناء على المقترحات غير الرسمية التي تقدمت بها القطاعات المعنية وهي: المشتقات النفطية المدعومة بنسبة 90 في المئة على سعر صرف 1515. الأدوية المدعومة بنسبة 85 في المئة على سعر صرف 1515. القمح والطحين المدعومان بنسبة 90 في المئة على سعر صرف 1515. والمواد الغذائية المدعومة بنسبة 85 في المئة على سعر 3900 ليرة. أما السيناريو الثاني فهو رفع الدعم كلياً، وتوسيع استفادة المواطنين من المساعدات المادية المباشرة سواء كانت من القروض الدولية أو حتى المساهمات الحكومية.
الرفع الجزئي
السيناريو الأول يفترض تخفيض الدعم عن البنزين بنسبة 40 في المئة والـ 60 في المئة المتبقية تتأمن من مصرف لبنان على سعر 3900 ليرة بدلاً من 1515، مع الإبقاء على دعم المازوت كما هو. وفي ما خص “الفيول” لزوم مؤسسة كهرباء لبنان الذي يكلف حوالى 1.7 مليار دولار سنوياً فلا شيء واضحاً حتى الآن. أما في ما خص الدواء فان الاتجاه هو لدعم استيراد المواد الاولية التي تدخل في صناعة الأدوية الوطنية بنسبة 100 في المئة، على ان يبقى الدعم كما هو على أدوية الامراض المزمنة والتي تحتاج وصفة طبية، أي يؤمن مصرف لبنان 85% من قيمة الإستيراد على أساس سعر صرف 1500 ليرة، ويخفض في المقابل الدعم على بقية الادوية التي لا تحتاج إلى وصفة طبية، والتي يطلق عليها تعبير OTC (الشراء عبر الكونتوار)، بحيث يصبح استيرادها على اساس سعر المنصة أي 3900 ليرة. أما دعم الطحين المخصص لصناعة الرغيف فلن يرفع، ذلك ان مجمل كلفته الشهرية لا تتعدى 12 مليون دولار. وفي ما خص المواد الغذائية المستوردة بنسبة 85 في المئة على أساس 3900 فستعود إلى السلة الأولى أي دعم 30 سلعة فقط بكلفة لا تتجاوز 80 مليون دولار شهرياً.
هذا السيناريو يخفض فاتورة الدعم الشهرية من حدود 500 مليون دولار حالياً إلى حوالى 266 مليوناً موزعة على الشكل التالي: 80 مليون دولار للغذاء، 58 مليوناً للدواء، 12 مليوناً للطحين، 83 مليوناً للمازوت، و33 مليون دولار للبنزين. من دون أن نشمل الدعم للفيول لزوم كهرباء لبنان. عند هذا المستوى سيزيد الطلب على الدولار في السوق الموازية بمعدل 243 مليون دولار شهرياً (500-266) أو ما يعادل 8 ملايين دولار يومياً؛ أي ان الطلب اليومي سيتضاعف و”يدوبل” معه سعر الصرف، وقد يصل إلى 25 الف ليرة.
مصير الأدوية في الحالتين
وبحسب نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة فان “خطة ترشيد دعم الأدوية التي قدمها وزير الصحة نهاية العام الماضي تعتبر الأفضل لانها مدروسة، وتقسّم الأدوية بحسب استعمالها وسعرها. وهي مقسمة إلى ثلاث مراحل قصيرة، متوسطة وبعيدة المدى. ونحن ندعو إلى تطبيق هذه الخطة بحذافيرها في هذه المرحلة لان هناك أنواعاً كثيرة لن يتأثر سعرها، واصنافاً قليلة من الأدوية غير العلاجية والتي تستخدم لفترات قصيرة سيرتفع سعرها بشكل قليل وسيكون لها بديل أرخص”.
صحيح ان هذه الخطة لا تخفض فاتورة الدعم بأكثر من 250 مليون دولار سنوياً، أي من مليار إلى حدود 750 مليوناً إلا أنها تبقى الخطة الوحيدة التي تأخذ بالإعتبار الحسنات والسيئات، برأي جبارة. “فالموضوع لا يتعلق بتخفيض الفاتورة الدوائية فقط، بل بالمحافظة على الجودة النوعية والفعالية. فبالإمكان تخفيض الفاتورة بشكل اكبر اذا استوردنا الدواء من تومبكتو (مالي)، لكن عندها ستفقد الادوية فعاليتها وترتفع الفاتورة الصحية اكثر”. وبحسب جبارة فان رفع الدعم كلياً عن الدواء سيرفع أسعار الأدوية بنفس نسبة ارتفاع سعر الصرف. أي إذا كان الدواء ثمنه 15 الف ليرة أو 10 دولارات سيصبح 120 ألف ليرة على سعر صرف 12 ألفاً، و250 ألف ليرة على سعر صرف 25 ألف ليرة. وهو شيء غير مقبول خصوصاً في ظل تزايد الحديث عن رفع الدعم في نهاية شهر رمضان من دون أن يكون هناك أي بديل.
الرفع الكلي
السيناريو الثاني يفترض رفع الدعم كلياً. ما يعني تحوّل الطلب بقيمة 500 مليون دولار شهرياً أو 16 مليون دولار يومياً إلى السوق الموازي. وهو ما يرفع نظرياً سعر الصرف إلى ما بين 36 و40 ألف ليرة، أما فعلياً فلا يعود هناك سقف لسعر الصرف، خصوصاً في ظل النقص الهائل في العرض ويتحول الطلب على الدولار إلى “مزاد علني، من يدفع اكثر يحصل عليه”، كما يصفه عضو نقابة أصحاب المحطات جورج البراكس.
لكن على المقلب الآخر يرى نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي أن “استبدال الدعم بالبطاقات التمويلية المباشرة من شأنه إحداث صدمتين مؤثرتين: الأولى، هي وقف التهريب نتيجة تقارب أسعار السلع بين لبنان والدول المُهرب اليها، وتحديداً سوريا. والثانية تراجع الهدر في الإستهلاك بشكل كبير وتوقف عمليات التخزين عند التجار والأفراد”. وإذا افترضنا أن نسبة التهريب تبلغ بحسب الأرقام 40 في المئة وأن نسبة الهدر والتخزين في استهلاك السلع المدعومة وتحديداً المشتقات النفطية والأدوية لا تقل عن 20 أو حتى 30 في المئة، فان كلفة الإستيراد الحقيقية ستتراجع بما لا يقل عن 60 أو حتى 70 في المئة، ما يعني أن الاستيراد سينخفض من حدود 7.5 مليارات دولار في العام 2020 إلى أقل من 4 مليارات دولار على صعيد سنوي. وبالقياس مع صادرات بقيمة 3 مليارات دولار فان عجز الميزان التجاري لن يتجاوز المليار دولار بعدما فاق في السنوات الماضية 15 ملياراً مسبباً عجزاً هائلاً.
هذه الإفتراضات النظرية التي قد لا تتلاءم فعلياً على أرض الواقع، فرضها عدم وجود أي تصور بعد من الجهات المعنية وتحديداً في وزارتي الإقتصاد والمالية عن مصير الدعم. وبغض النظر عن نسبة تطابقها مع الواقع فان الأكيد أن “رفع الدعم كان يجب أن يتوقف من الناحية التقنية، قبل 6 أشهر”، بحسب بحصلي. وعلى الرغم من وصول احتياطي مصرف لبنان القابل للاستخدام إلى الخطوط الحمراء فان “رفع الدعم تأجّل مرة جديدة بسبب حلول شهر رمضان الكريم. وبالتالي فان أقرب موعد لاتخاذ خطوات جدية هو نهاية الشهر القادم”.
السلة الغذائية لن تتأثر
وفي ما خص السلع الغذائية يعتبر بحصلي أن رفع الدعم كلياً لن يكون له التأثير السلبي الكبير بسبب ثلاثة عوامل رئيسية:
– نسبة السلة الغذائية من مجموع الدعم لا تتجاوز 20 في المئة وهي مدعومة على 3900 ليرة وليس 1515.
– عدم وجود السلة الغذائية المدعومة فعلياً على أرض الواقع بسبب عدم قدرة التجار على إدخال الكميات الكافية والمطلوبة وتأخير البت بالطلبات وفتح الإعتمادات. فاذا احتسبنا نسبة أو أعداد المواطنين الذين يستفيدون فعلياً من السلة الغذائية ونسبة تكوينها من انفاقهم الشهري مقارنة مع غير أصناف، لوجدنا أنها قليلة جداً. فأغلبية المواطنين يشترون السلع المدعومة سواء كانت الأرز أو اللحومات أو السكر أو الزيت أو الحليب وخلافه من الأصناف على سعر السوق. وبالتالي فان رفع الدعم عنها لن يكون له التأثير الكبير على المواطنين، في المقابل سيخفض فاتورة الدعم بنسبة 20 في المئة على أقل تعديل.
– حصر السلة الغذائية بـ 30 صنفاً فقط في حين أن بقية الأصناف يتم بيعها في الأسواق على سعر صرف السوق الموازية.
وبحسب بحصلي فان تعقيدات آليات الإستيراد، وإحجام قسم كبير من التجار عن استيراد المواد المدعومة وبطء آلية البت بالملفات خفض كميات البضاعة المدعومة بشكل كبير في الأسواق ودفع المواطنين للتأقلم مع السعر الجديد. ولكن هذا التأثير بقي محمولاً بسبب الإبقاء على دعم بقية الأصناف وتحديداً المشتقات النفطية. وفي حال رفع الدعم الكلي فان كل الأسعار ستتأثر في المرحلة الأولى قبل أن تبدأ عملية توزيع المساعدات المالية المباشرة وانطلاق الاصلاحات الجدية واستئناف المساعدات الخارجية.