كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
ليست المرة الاولى التي تلتقي فيها مراجع داخلية واجنبية على قراءة موحّدة لبعض المسائل، ولكن ما يميّزها عن سابقاتها انّها تتفق على “تجريم” المسؤولين المعنيين بعدد من الملفات التي تشابكت وعززت العِقَد المحيطة بها، ولا سيما منها تلك التي اعتُبرت مدخلاً إجبارياً الى اعادة وصل لبنان بالخارج ومحيطه الطبيعي. وإن اقتربت من ملف القضاء توصلت الى خلاصة مفادها، أنّ التسويات السياسية لا تحتاج الى القضاء. فكيف ولماذا؟
وكأنّه لا يكفي ما سال من حبر تناول “التسوية السياسية” التي عُقدت عام 2016 وأنتجت سلطة قيل انّها ستبقى ثابتة على مدى عهد كامل من 6 سنوات. وليس في الامر سراً، انّ النية عُقدت يومها نتيجة مجموعة التفاهمات الثنائية والثلاثية، ليصل العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية ويعود الرئيس سعد الحريري على رأس “السنّية السياسية” الى السرايا الحكومية، في ظل ثنائية شيعية هي الأقدم والأكثر صلابة، ولتقوم الى جانبها ثنائية مسيحية أخرى، جمعت في “اتفاق معراب” بين خصمين لدودين تحوّلا الى صديقين تحت شعار “المصالحة المسيحية”، من دون إغفال الاولوية التي حفظت موقعاً متقدّما لـ”الحزب التقدمي الاشتراكي” درزياً.
بقي ذلك قائماً حتى قبيل منتصف الولاية، حيث “انفخت الدف وتفرّق بعض العشاق”، عندما سلّمت الاكثرية التي كانت قائمة عام 2016 اوراق اعتمادها الى الأكثرية الجديدة، التي سمحت بالاتفاقات السابقة على مضض. كان ذلك من اولى مفاعيل قانون الانتخاب الجديد الذي رفع شعار النسبية وأغرقها في بحر “الصوت التفضيلي”، فولد قانون هجين ميزته الخصوصيات اللبنانية. وهو القانون الذي جاء بمجلس العام 2018، ليكرّس منطق التعطيل الذي انتهجته “الاقلية النيابية المعطلة” من خارج الدستور منذ انتخابات العام 2005 تحت شعار “الميثاقية المذهبية”.
واذا عاد المراقبون الى مفاعيل هذه المعادلة، لوجدوا ترجمتها في اكثر من محطة. وإن كان ابرزها ما رافق فترة الشغور الرئاسي التي ابطلت مفاعيل الاكثرية النيابية على مدى 29 شهراً، الى ان انصاع اقطابها لتسوية 2016. وقبل ان تتجاوز المرحلة الانتقالية نصف الولاية الرئاسية انفرط عقد “اتفاق معراب” بلمحة بصر وكأنّه لم يكن، وسقطت تسوية “بيت الوسط ـ ميرنا الشالوحي”، وتبخّرت “تفاهمات كليمنصو” عقب “أحداث قبرشمون”، فاختلطت الاوراق وبدأت “حروب الغاء” استنسخت تجارب سابقة لم يتغيّر فيها إلّا اقطابها.
ليس في ما سبق تأريخاً لمرحلة لم ينساها اللبنانيون بعد، وان اختلفوا على بعض عناصرها، نتيجة ما تبادلوه من إتهامات حول اسبابها وما رافقها، الى ان اعادت نتائجها توحيد النظرة اليها. وما عزّز هذا التقارب في قراءتها يكمن في مسلسل السيناريوهات التي تلتها، فتهاوت كل مشاريع التفاهمات وكُشفت “الاوراق السرية” التي بُنيت عليها التسوية ما ان فشل اصحابها في مقاربة اي من الملفات التي أُدرجت تحت شعار “القضايا الخلافية”، التي نشأت وتنامت الى درجة افتقدت فيها الحلول لمجموعة الأزمات. فتوالت الإنتكاسات الى درجة لم يكن ينقصها ما تسببت به “جائحة الكورونا”، ومعها الازمة النقدية والمالية الخطيرة التي لم تشهد البلاد مثيلاً لها، وأضافت مزيداً من المعاناة الشعبية على وقع تنامي بوادر القطيعة الخليجية والغربية مع اركان السلطة. وهي عملية تدرّجت بسرعة قياسية، بعد ان نجحوا في نقل البلد من مرحلة “النأي بالنفس” الى مرحلة “الانغماس” في محور الممانعة والمقاومة.
وهي نتيجة طبيعية للتطورات المأسوية، بعدما تورطت فئات لبنانية في ازمات المنطقة وحظيت بتغطية رئاسية وحزبية، توعّدت بترجمة الانتصارات الخارجية في الداخل اللبناني، بعد ضمّ الساحة اللبنانية الى ساحات المنطقة المتفجرة بتداعياتها المختلفة.
على هذه الخلفيات، يمكن قراءة الأسباب التي قادت الى الإنقسامات الكبيرة في طريقة مقاربة الأزمة النقدية والمالية. وعلى وقع الفشل في اصدار قانون “الكابيتال كونترول” الذي تلجأ اليه الدول في ازمات نقدية مماثلة عند إفتقادها العملات الصعبة، اختلفوا على كل شيء، وظهرت فوارق بعشرات آلاف المليارات عند تقدير الخسائر في القطاع المصرفي ومصرف لبنان، وتعثرت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وجُمّدت تلك المقررة مع الدائنين الدوليين والمحليين. ولتزيد التطورات من حدّة الأزمات، جاءت انتفاضة 17 تشرين 2019 لتكون سبباً في تنامي التعقيدات، ولم تنجح حكومة “مواجهة التحدّيات” في مواجهة اي منها، الى ان انفجرت الأزمة الحكومية مجدداً بدرجة ليس من السهل تجاوزها.
وإن توقف المراقبون امام هذه المحطات، لا بدّ من ان يتلمسوا الدور المتعاظم للقضاء في مختلف وجوه هذه الأزمات المالية والنقدية والامنية، فارتفعت نسبة الضغوط على السلطة القضائية الى الحدود القصوى، الى ان تحولت مرآة للتجاذبات والانقسامات السياسية. وبعدها، سقط مشروع المناقلات والتشكيلات القضائية، مخافة المسّ بالمواقع السياسية المحصّنة بوجوه قضائية، من دون مراعاة ما تقتضيه حاجة البلاد الى قضاء مستقل ومنزّه، يُرضي الشارع المنتفض ويقارب الملفات بعين واحدة ومتساوية، بعيداً من الكيدية والتشفّي. فيقف القضاة على مسافة قريبة من الحق والحقيقة، بدل ان يكونوا لاعبين على مسرح التجاذبات التي لم يكن إخفاؤها سهلاً منذ ان جُمّدت التشكيلات والمناقلات القضائية، فتعدّدت مواقع القوى فيه وبرزت مظاهر العصيان على مختلف المستويات، حتى تلك التي تتشبّه بـ “امرأة القيصر”، فوصلنا الى ما وصلنا اليه.
وبعيداً من الدخول في كثير من التفاصيل التي حملتها تطورات الايام القليلة الماضية، بما عبّرت عمّا هو غير مألوف، فقد ثبت للقاصي والداني من مراقبين لبنانيين وديبلوماسيين عرب واجانب، مدى الخروج عمّا يقول به قانون او دستور او نظام. فالتقوا عند عناوين موحّدة، اقلّها عدم حاجة اهل السلطة الى من يفصل في خلافاتهم من خلال القانون والدستور، واللجوء الى منطق القوة والاستعراض الشعبي والحملات الاعلامية، بما فيها من حروب نفسية فرضت اللجوء الى ضخ معلومات وتقارير توزع الإتهامات يمنة ويسرة، وصولاً الى تزوير محاضر الجلسات واللقاءات، بغية تأليب الرأي العام. مع اليقين بأنّها اساليب لن تنتج حلاً لأي معضلة، ولن تُشبع جائعاً وترضي صاحب مطلب، ولا تعافي مريضاً ولا توفّر خدمة لمحتاج.
وختاماً، لا بدّ من الإشارة الى انّ معظم هذه الصورة التي عكسها النزاع السياسي على الساحة القضائية، ولا تحظى بتوصيف دقيق، يمكن الاستنتاج، انّ سلطة بمثل هذه المواصفات لا تحتاج الى من يفصل بين الحق والباطل، وان بقي السعي قائماً الى “تسوية سياسية” جديدة، فهي بالتأكيد ليست في حاجة الى “قضاء مستقل”. فلِمَ السؤال عمّا آلت اليه حاله؟