كتبت رلى موفّق في “اللواء”:
آلت مراقبة المشهد اللبناني بعين عربية إلى استنتاج قاتم بأن البلاد، التي تواجه مأزقاً وجودياً, تعيش حالاتٍ من الإنكار والتعمية ومن خطأ التوصيف والرهانات بلغت حداً قاتلاً، وأن جل ما سنراه في هذه المرحلة هو الهروب من أزمة إلى أزمة جديدة، كلما اشتدت الضغوط لتأليف الحكومة.
فتح رئيس الجمهورية معركة التدقيق الجنائي على وقع زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري. ثم جرى نقل العدسة إلى ترسيم الحدود البحرية الجنوبية على وقع زيارة الموفد الأميركي دايفيد هيل. وقبل أن تتلاشى ظلال تلك الصورة، طفت إلى السطح «العراضة القضائية» للقاضية غادة عون كأنها تتلذذ في دق المسمار في نعش الجسم القضائي. وسيكون متوقعاً بروز عنوان إشكالي جديد غداً أو بعد غد في عملية يظنّ منفّذها، أو منفّذوها، أنها عملية «عض أصابع»، لكنها في واقع الأمر ليست سوى عملية انتحارية، سواء جاءت تحت عنوان الحسابات المرتبطة بمعركة رئاسة الجمهورية، أو التعويم السياسي كلاعبين مؤثرين في هذا الاستحقاق، أو جاءت تحت عنوان الحاجة إلى «تقطيع الوقت» لحين ظهور مآلات المفاوضات الإيرانية – الأميركية على المنطقة وموازين القوى فيها، وعدم إحراق الورقة اللبنانية التي يُمسك بها «حزب الله» بما يجعل البلاد رهينة لعبة الانتظار.
في القراءة أن ثمة إنكاراً بأن الدولة كمؤسسات وأجهزة باتت على مشارف الانهيار الشامل، وأن البلاد دخلت مالياً واقتصادياً في أتون السقوط الكبير، وعلى مسافة خطوة أو اثنتين من الارتطام المحتوم. وبالتالي أضحت البلاد أمام مسار من اثنين لا ثالث لهما: إما السير على درب وقف الانهيار لإنقاذ الدولة الوطنية، أو مواصلة درب السقوط فانحلالها. وصفة العلاج معلومة وتبدأ من خريطة الطريق المغطاة عربياً ودولياً والتي رسمتها المبادرة الفرنسية، وأولى بنودها تأليف حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين من دون ثلث معطل، تعمل على إنجاز اتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج متكامل من الإصلاحات النقدية والمالية والسياسات الاقتصادية المحددة على طريق إعادة التوازن إلى مالية الدولية، بحيث يفتح الالتزام بالبرنامج وتطبيق الإصلاحات الباب أمام مساعدات دولية سواء عبر المؤسسات المانحة أو الدول.
المطلوب حماية الدولة الوطنية من التلاشي كون ذلك يدخل في إطار حماية الأمن القومي العربي…
ومن دون حكومة وإقرار برنامج صندوق النقد، لن يكون هناك طريق أو وسيلة لبداية لجم السقوط، وسيكون المسير نحو انحلال الدولة الوطنية، حيث سيؤدي الانفجار إلى فوضى اجتماعية ومنها إلى فوضى أمنية، وسيصبح الأمن المجتمعي في مهبّ الريح، مع توقع انفلات الأمن وغياب الأمان، بحيث تحل السرقات وعمليات السلب والقتل وتسود شريعة الغاب، ما سيؤدي إلى بروز كيانات مناطقية وطائفية وعشائرية وجهوية على حساب الكيان الجامع الذي سيتم تقويضه، لكنها في آن لن تكون قادرة على الحلول محل الدولة في ظل الأزمات المالية والاقتصادية وغياب الدعم الخارجي لها.
ولا تستقيم في هذا السياق كل محاولات اللعب على حافة الهاوية انطلاقاً من مقولة أنه ليس من مصلحة المجتمع الدولي ترك لبنان ينهار أو تركه لمصيره، إذ إن هذا ما هو حاصل عملياً. فالجميع من دول عربية وغربية أداروا وجوههم عن لبنان، ولن يلتفتوا إليه إلا إذا التزم بـ «وصفة العلاج» التي لا بديل عنها، والتي وحدها يمكنها أن تعيدهم للنظر مجدداً صوب «بلاد الأرز» علها تستعيد بعضاً من أدوار فقدتها، وتفتح أمامها الأبواب للعب أدوار جديدة. فليس تفصيلاً أنه بعد انفجار مرفأ بيروت، كان الاتجاه الدولي تقديم مساعدات إنسانية، وبقي العنوان «إنسانياً» في المؤتمر الدولي الذي عُقد افتراضياً في كانون الأول الماضي، بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فيما ينتظر العنوان الإنمائي والإنقاذي التزام لبنان بما سبق أن تعهّد به سابقاً من إصلاحات والانتقال من الأقوال والوعود إلى الأفعال.
يتم النظر، بعين عربية كما دولية، إلى الحكومة المنتظرة على أنها حكومة انتقالية من شأنها أن توقف الارتطام، فيما البلاد ستكون على بعد سنة ونصف السنة من استحقاق الانتخابات النيابية التي ستنبثق منها سلطة سياسية جديدة. هنا يأتي الامتحان للناس التي انتفضت في 17 تشرين الأول 2019، وللمجتمع المدني، وما إذا كان سينجح في الخروج من البوتقات الطائفية الضيّقة وإحداث نواة تغيير فعلي في المجتمع يمكن البناء عليه في المستقبل. لا أوهام بقدرة كبيرة على إحداث انقلاب في المشهد السياسي، إنما باب التحوّلات مفتوح بفعل «الأصوات المتأرجحة» التي تنقل التوازنات من ضفة إلى أخرى. المعطيات الواردة إلى كثير من المجالس السياسية تشير إلى أن الانتخابات النيابية قائمة في موعدها. الأمر غير المحسوم هو ما إذا كانت ستجري على القانون الناجز أم أن تعديلات ستُدخل عليه. وسيكون تالياً على عاتق المجلس المنتخب، الذي يُفترض أن يكون يعكس إرادة الناس حينها، إنجاز استحقاق الانتخابات الرئاسية وإيصال رئيس جديد إلى بعبدا.
هذا هو الانتقال السلس للسلطة من ضمن القواعد الدستورية الذي يتـمُّ العمل عليه عربياً، في وقت يُفترض أن تكون الإصلاحات تسير وفق البرنامج المتفق عليه مع «الصندوق»، والذي يتولى بشكل لصيق مراقبة مدى جدية الالتزام بما هو متفق عليه، ويحل في هذا الإطار محل الرقابة المحلية. فعدم الالتزام يعني تلقائياً وقف التمويل، ذلك أن رقابة الصندوق كجهة مقرضة هي رقابة صارمة لا يمكن التلاعب معها أو التذاكي عليها.
في العين العربية والدولية، أن عقارب الساعة في لبنان ما عاد بالإمكان إعادتها إلى الوراء. الدولة اللبنانية تعاني إفلاساً مالياً، وهناك ما يزيد عن 55 في المئة من سكان لبنان يعيشون تحت خط الفقر، وسيزداد تأزم الأطراف السياسية، بما فيها «حزب الله» الذي تباهى أمينه العام بأن مقاتليه سيبقون يتقاضون رواتبهم بالدولار، وأن بيئته ستكون بمنأى عن الجوع، فإذا بها اليوم تعيش ثقافة «الحصص الغذائية» و«البطاقات التموينية» شأنها شأن غالبية اللبنانيين.
لا أحد قادراً على التنبؤ بالمسار الذي سيسلكه لبنان في ما تبقى أمامه من وقت ليس بطويل، وما إذا كان بالإمكان وقف مسار انهيار الدولة أو تركها تتحلل. غير أن ثمة مَن يتحدث عن تحذيرات نُقلت بأن المطلوب حماية الدولة اللبنانية من التلاشي كون ذلك يدخل في إطار حماية الأمن القومي العربي والأمن الذاتي لدول الجوار، والتي ستصيبها شظايا الانحلال. البعض يهمس عن تحذيرات منسوبة إلى مصر!.