مع سريان قرار المملكة العربية السعودية بحظْر دخول إرساليات الفواكه والخضار الآتية من لبنان إلى أراضيها أو عبورها منها رداً على «استهدافها الممنْهج» بشحنات مخدرات، تكون «بلاد الأرز» بدأت «تدوس» على ألغام أشاحتْ النظر عن زرْعها في واقعها مع تحوّلها أشبه بـ «مشاعٍ» في الصراع الإقليمي ولم تتوقّع أن «تنفجر بها» في توقيتٍ بالغ الحراجة قطعتْ معه أكثر من ثلاثة أرباع الطريق نحو القعر… القاتِل.
فبيروت التي لم تقتنع بأن «شيئاً ما تَغَيَّر» في سلوك الخارج تجاهها منذ تمزيقها تباعاً، بانزلاقها خارج الحاضنة العربية والدولية، «سترات النجاة» التي أنقذتْها من كل «الأعاصير» التي ضربتْها ومنذ إمعان المسؤولين فيها بتقديم أسوأ أدوار القيادة التي قابلها العالمُ بـ «تقريعٍ» علني لم تتعرّض له دولة قبله، وجدت نفسها فجأة أمام حقيقة مُرة كانت أدارتْ الظهرَ لها وهي أن المجتمعين العربي والدولي اللذين حدداً شروطاً واضحة لمدّ اليد للبنان لن يتردّدا في سحْب اليد من أزمته المتمادية ما لم يسارع الأطراف المعنية في الداخل إلى الاضطلاع بمسؤولياتهم في حلّها، وسط ارتسام معادلة «فتّاكة» باتت معها البلاد فعلياً تدفع ثمن التداعيات المباشرة لهذه الأزمة على مختلف مستويات واقعها الداخلي وأكلاف تشظياتها الخارجية.
وبدا لبنان أمس «مصدوماً» وهو يرصد تَدَحْرُج المواقف الخليجية الداعمة لقرار الرياض بحظْر المنتجات الزراعية الآتية من لبنان و«الخطوات التي تتخذها في إطار جهودها الدؤوبة لمكافحة هذه الجريمة المنظمة» وفق ما عبّرتْ أمس الإمارات بعد كل من البحرين والكويت التي كانت دعتْ أيضاً السلطات اللبنانية «للعمل على ضمان خلو صادراتها من أي ممنوعات تعرّض صادراتها للحظر والمنع»، في ظلّ خشيةٍ كبيرة من أن تحذو دول الخليج العربي حذو الرياض ما لم تبادر بيروت إلى «تقديم ضمانات كافية وموثوقة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف عمليات تهريب المخدرات».
وعشية اجتماعٍ يُعقد اليوم في القصر الجمهوري برئاسة الرئيس ميشال عون في حضور رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية والزراعة والمال والاقتصاد وقادة الأجهزة الأمنية والجمارك سيتخلله بحث في حيثيات القرار السعودي والتدابير المطلوبة لطمأنة الرياض ومنْع اتساع رقعة الدول التي تضع المنتجات اللبنانية الزراعية على «اللائحة السوداء»، لم يكن عابراً إطلاق السفير السعودي في بيروت وليد بخاري مواقف عكست أن «الكيل طفح» من السعودية بإزاء عمليات تهريب «منظّم» للمخدرات إلى أراضيها من لبنان أو عبره خصوصاً في الأعوام الستة الأخيرة.
فبخاري، الذي أثار الكشفُ عن أنه غادر لبنان قبل 3 أيام بلبلةً لجهة مدى ارتباط الأمر بقرار بلاده، رغم إبلاغه قناة «ال بي سي اي» انه في «إجازة اعتيادية» وانه «أبلغ الخارجية اللبنانية في هذا الخصوص»، كشف أمس «ان إجمالي ما تم ضبطه من المواد المخدرة والمؤثرات العقلية التي مصدرها لبنان من مُهرّبي المخدرات أكثر من 600 مليون حبة مخدرة و مئات الكيلوغرامات من الحشيش خلال الست سنوات الماضية»، موضحاً أن «الكميات التي يتم إحباط تهريبها كافية لإغراق الوطن العربي بأكمله بالمخدرات والمؤثرات العقلية وليس السعودية لوحدها».
ويأتي كلام بخاري ليضع المزيد من الضغط على اجتماع بعبدا اليوم، وسط اقتناعِ أوساط مطلعة بصعوبة تَوَقُّع خروجه بنتائج تُفْضي لمعالجة جذرية لمشكلةٍ عميقةٍ تتناول مجمل وضعية الحدود البرية المتفلّتة والمرافئ البحرية التي لطالما عُرفت بأنها «مخترَقة» بالفساد والتراخي في الرقابة والتي باتت أكثر انكشافاً على عمليات التهريب بعد انفجار مرفأ بيروت في آب الماضي.
وترى الأوساط عبر «الراي» أن ملف الحدود صار بمثابة «المنشار» الذي «يأكل صعوداً ونزولاً» من سمعة لبنان وما تبقى من أموال لـ «الدولة المفلسة»، لافتةً إلى أنه بعدما كبّدت «الحدود السائبة» بيروت مليارات الدولارات بفعل عمليات تهريب السلع المدعومة إلى سورية، فان هذه الحدود، ونتيجة تحوّلها «مقراً رئيساً» لمعامل تصنيع المخدرات (خصوصاً الكبتاغون) وممراً لهذه المواد إلى دول أخرى، تجعل البلاد تخْسر آخِر النقاط في رصيدها المتآكل تجاه الخارج وعشرات الملايين من الدولارات من صادرات هي بأمسّ الحاجة إليها لتصفيح القعر المفتوح.
وبحسب هذه الأوساط فإن ملف الحدود بات أكبر من أي معالجاتٍ داخلية كما أن أي حلول «موْضعية» له لن تكون كافية ولا «شافية» لتهدئة «العين الحمراء» الخليجية على تحوّل لبنان منصة لتهريب المخدرات، لافتة إلى هذا الملف محكومٌ بتوازُن سلبي يشكّله اعتباره من المجتمع الدولي أحد مرتكزات عنوان الإصلاح ووقف الهدر (عبر التهريب والتهرب الجمركي) في مقابل تعاطي «حزب الله» معه على أنه من عُدّة قطْع خطوط إمداده العسكري و«تقطيع أوصال» قوس النفوذ الإيراني الى المتوسط.
وإذ برزت في الساعات الماضية عملياتٌ عدة قامت بها الأجهزة الأمنية والجيش وشملتْ إحباط تهريب مواد كانت في طريقها الى سورية وضبْط مصنع كبتاغون في البقاع ومصادرة كميات من المخدرات في أكثر من منطقة ومنْع تهريب 69 سورياً عبر البحر الى قبرص، في ما بدا محاولةً ولو متأخرة لـ «تصحيح الصورة» يتعيّن تتَبُّع المدى الممكن أو «المسموح» أن تأخذه، كانت الهيئات الاقتصادية تدين «بشدّة إدخال المخدرات الى السعودية»، مبدية «قلقها الشديد لتداعيات القرار السعودي القوية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي في لبنان»، واصفة إياها بـ «الكارثة الكبيرة التي تهدد عشرات آلاف العاملين في القطاع الزراعي» ومطالبةً «الدولة بتحمل المسؤولية واتخاذ إجراءات صارمة وشفافة لمنع استخدام لبنان كمنصة لتهريب المخدرات الى السعودية أو لأي دولة في العالم، حفاظاً على سمعة لبنان ومصالحه».