كتب جوني منير في “الجمهورية”:
لم يكن ينقص الانهيار الاقتصادي الذي يضغط بقوة على اللبنانيين سوى المقاطعة الخليجية للتصدير الزراعي اللبناني، والذي يُقال انّه بمجمله يقارب الـ100 مليون دولار سنوياً على مستوى كل دول الخليج.
السفارة السعودية في بيروت أبلغت جميع الذين راجعوها، بأنّ القرار يرتكز على الاسباب الأمنية، وانّ لا خلفيات سياسية له.
في الواقع، ثمة سببان يدفعان للبحث عن الخلفيات السياسية، السبب الاول وهو يتعلق بملاقاة بلدين خليجيين اساسيين على الفور للقرار السعودي، ولو من دون تسجيل اي حالة مشابهة في هذه المرحلة.
والسبب الثاني ويتعلق بأنّ حادثة التهريب هذه ليست الاولى، وهنالك العديد من الحالات المكتشفة سابقاً، وحيث كانت المعالجة تجري في الاطار الامني التقليدي. وبالتالي، لو حصلت هذه الحادثة في ايام عادية، لكانت جرت معالجتها من خلال الاساليب الامنية والقضائية المعهودة. أما الذهاب الى منع إدخال الخضار والفاكهة اللبنانية، في مرحلة يرزح فيها الاقتصاد اللبناني تحت أثقال الانهيار والافتقار الى العملة الصعبة، فهذا يعني أنّ ثمة رسائل سياسية واضحة، وهي تُترجم برفع مستوى الضغوط على السلطة اللبنانية الى الحدّ الاقصى.
في الواقع، هنالك مقاربة خاطئة من قِبل السلطة اللبنانية حول كيفية تفسير الموقف السعودي، بدءاً من عودة السفير السعودي الى بيروت ومروراً بالعرض «المغري» الذي حمله مستشار رئيس الجمهورية سليم جريصاتي الى السفير السعودي، حول تسمية بديل عن الحريري، وانتهاء بالتسويق الإعلامي غير الصحيح لزيارة البخاري الى قصر بعبدا. فلقد قيل يومها، إنّ الزيارة جاءت بطلب من السفير السعودي، وأنّه خلال الاجتماع هاجم الحريري وأثنى على الرئيس عون.
فصحيح انّ العلاقة بين السعودية والرئيس سعد الحريري لا تزال جليدية، لكن احد اسباب ذلك، التزام الحريري بالتسوية الرئاسية وأخذها على عاتقه، خصوصاً حيال الموقف اللبناني الرسمي من الصراع الاقليمي العنيف بين السعودية من جهة وايران و»حزب الله» من جهة اخرى.
ما يعني انّ الطاقم الحاكم في السعودية الآن متشدّد اكثر بكثير. أضف الى ذلك أنّه منشغل بالكامل بالملف اليمني، ما يدفعه لإدارة ظهره للملف اللبناني، وهو سبب اساسي للحريري يجعله غير قادر على التراجع اي خطوة الى الوراء، هذا لو افترضنا انّه يريد ذلك.
فيوم اعلن قبوله بمنح حقيبة المالية للطائفة الشيعية، لاعتقاده انّه بذلك يفتح الطريق امام مبادرة الرئيس الفرنسي، ارتفع منسوب الانتقاد السعودي على الحريري، ولاقاه الرئيس الفرنسي بانتقاد مماثل ايضاً.
من السذاجة التفكير بأنّ ثمة بصيص ضوء تفاؤلي حيال الولادة الحكومية، فيما الصراعات وصلت الى حدّ التشويش على الزيارات الخارجية، والتي بلغت ذروتها مع زيارة الحريري للفاتيكان.
أخصام الحريري روّجوا لأخبار غير صحيحة في وسائل الاعلام عن موقف البابا، وهذا كان خطأ. وردّ الحريري عليهم من امام مقر الكرسي الرسولي، وهو ما كان خطأ اكبر على المستوى البروتوكولي. واضح انّ اللعبة لم تعد في البحث جدّياً عن مخارج حكومية، بل اصبحت «بإلغاء خصمي في السلطة حتى ولو خسرت أنا».
وهو ما يعني انّ رئيس الجمهورية، وخصوصاً رئيس «التيار الوطني الحر»، يدفعان بالضغط الى أقصاه لرمي الحريري خارجاً، والحريري يستمر بتطويق خصميه، مستفيداً من علاقاته الدولية القوية، وهو ما سيؤدي الى انتهاء ولاية الرئيس عون من دون حكومة.
ومعه يضحى الارتطام حتمياً وقريباً جداً، نظراً لإعلان حاكم مصرف لبنان انّ الاحتياط الالزامي يشارف على الـ 15 مليار دولار.
في كلمة رئيس «التيار الوطني الحر» الاخيرة، مزيد من رمي الورود الى الاميركيين، كمثل اقتراح لجنة سياسية بامتياز، كبديل عن اللجنة العسكرية للمفاوضات حول الحدود البحرية. صحيح انّ «حزب الله» لم يعلّق رسمياً على هذه الدعوة، لكنه بالتأكيد يرفضها، خصوصاً وأنّ البعض يتحدث عن تصور مكتوب ومفصّل حصل بينه وبين قصر بعبدا، قبل ان يجري وضع الملف بين يدي رئيس الجمهورية.
لكن، الى جانب هذا الاقتراح، كان سيل من المواقف التي تؤشر الى انسداد كامل في أفق الولادة الحكومية، وحتى رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب لم يسلم، وهو ما سيزيده عناداً بعدم الدعوة لجلسة للحكومة المستقيلة.
وخلال الاجتماع الأمني الاخير الذي عُقد في قصر بعبدا، تحدث دياب بعد كلمة رئيس الجمهورية، وهو قال بوضوح متوجّهاً بكلمته الى الرئيس عون: «الحل هو بتشكيل حكومة جديدة. اذهبوا وشكّلوا هذه الحكومة».
وخلال لقاءات وكيل وزارة الخارجية الاميركية ديفيد هيل مع المسؤولين اللبنانيين، ثمة سؤال تعمّد طرحه امام الجميع: ماذا ستفعلون في حال الانهيار الكامل؟
الرئيس نبيه بري، والذي ردّد هيل لاحقاً انّ لقاءه به كان مفيداً جداً، قال لزائره: «وضعنا خطير للغاية، ولم يعد لدينا مزيد من الوقت. فلقد ابلغنا حاكم مصرف لبنان انّ كل ما يتبقّى لنا بالكاد شهر واحد».
وربما هذا ما دفع بالمسؤول الاميركي للقول في اجتماعات اخرى: «المفاوضات الاميركية – الايرانية قد تأخذ عدة اشهر، فيما وضعكم غير قادر على الانتظار سوى شهر واحد. ماذا ستفعلون؟»
لم يستطع احد تقديم اجابة واضحة. وهو ما يعني انّ البعض سلّم بحتمية الارتطام قريباً. والبعض الآخر ربما يرى في هذا الارتطام باباً لهدم كل شيء، تمهيداً لإعادة بنيان هيكل جديد، عملاً بمقولة ميكيافيلي في كتابه الشهير «الامير».
وهنا تدخل المصالح والتسويات الاقليمية من الباب الأوسع الى الصحن اللبناني. روسيا تحسب من باب مدى تأثير الانهيار الشامل في لبنان على مصالحها في سوريا. و»حزب الله» يحسب لواقع جديد انطلاقاً من سوريا الجديدة، ومشروع عودته العسكرية من سوريا، اضافة الى المشاريع الاميركية حيال ترسيم الحدود البحرية، وكذلك البرية مع اسرائيل وسوريا على السواء.
والفاتيكان قلق حتى الموت من المغامرات المجنونة للمسيحيين، والتي تهدّد بالقضاء الكامل على آخر معقل مسيحي في الشرق. ولذلك، يفسح رأس الكنيسة الكاثوليكية وقتاً واسعاً للنقاش حيال المخاطر الوجودية التي تهدّد المسيحيين في لبنان، وهو لذلك ربط زيارته الى لبنان بولادة الحكومة. فيما يدرس الفاتيكان النتائج التي يمكن ان تسفر عنها ارسال موفد فاتيكاني للمساعدة في ولادة الحكومة وفق المبادرة الفرنسية، قبل ان يتخذ خطوة في هذا الإطار.
كذلك تعمل الدول الطامحة لقيادة السنّة، الى مراقبة الوضع في لبنان عن كثب خشية الفراغ الناشئ عن الإنكفاء السعودي. لذلك تهتم مصر، وتركيا ليست بعيدة. وفي آخر استطلاع للرأي اجرته المؤسسة الاميركية المتخصصة بالعالم العربي وهي «الباروميتر العربي»، سجّل لبنان ارقاماً ملفتة. فلقد بلغت شعبية الرئيس التركي اردوغان لدى اللبنانيين 25%. أما شعبية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان فبلغت 24%، ونال مرشد الثورة الاسلامية في ايران علي خامنئي تأييد 20% من اللبنانيين. فيما نال اردوغان في الاردن نسبة 52% ومحمد بن سلمان 13%، ونال خامنئي 5% فقط.