كتب أنطوان فرح في “الجمهورية”:
ما هي الفرص الحقيقية المتاحة لإنقاذ الاقتصاد؟ وما هي الفترة الزمنية التي قد يستغرقها الانقاذ للوصول الى وضع طبيعي يعيد الى اللبنانيين مستويات عيش جيدة؟ وهل من خطوات يمكن ان تتخذ منذ اليوم تمهيداً لبدء تنفيذ خطة للتعافي فور تشكيل حكومة وبدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي؟
تمّ تشكيل حكومة حسان دياب استناداً الى فلسفة مفادها انها حكومة غير سياسية، سوف تتولى عملية الانقاذ الاقتصادي بحرية على اعتبار انّ رئيسها والاعضاء فيها، ليست لديهم طموحات مستقبلية في السياسة. وقد تعهد رئيس الحكومة والوزراء بعدم الترشّح الى الانتخابات النيابية المقبلة، كبادرة حسن نية لتثبيت القول بالفعل.
تكمن أهمية هذا المفهوم (concept) انه يُفترض أن يحمي الحكومة ورئيسها من اتخاذ قرارات شعبوية لإرضاء الناس، والتركيز على سياسة إنقاذية مُجرّدة من الضغوطات، إنطلاقاً من حقيقة ان القرارات الموجعة هي طريق الانقاذ الأكيد، في حين ان القرارات المُريحة هي الطريق الأكيد نحو وجع أكبر وأخطر في المرحلة المقبلة.
لكن المفارقة ان حسّان دياب قلب المقاييس وصار ميّالاً الى القرارات الشعبوية التي اشتهر بها السياسيون الذين أوصلوا البلد الى الانهيار. والسؤال، ماذا يخشى دياب؟ حكومته مستقيلة، ولا يمكن إسقاطها في الشارع، وترشيحه لعضوية نادي رؤساء الحكومة السابقين ليست معلّقة على هذا النوع من القرارات، بل حساباتها مختلفة.
ما أعلنه دياب أخيراً في شأن رفع الدعم، غير مريح اقتصادياً، ولو انه يُرضي الناس على المدى القصير، لكنه سيصدُمهم، كما جرت العادة، في الايام المقبلة، وحين لا ينفع الندم. وما سيحصل في هذا الموضوع واحدٌ من أمرين:
السيناريو الاول: سيتم بدء العمل في البطاقة التمويلية وفق اللوائح التي لا يزال يجري إعدادها. وستموّل هذه البطاقات بالليرة، حيث سيضطر المركزي الى طباعة كميات اضافية من العملة الورقية. وستسجل الليرة انخفاضا كبيرا في قيمتها، بحيث ان الاموال التي سيحصل عليها من وَرد اسمه في اللوائح ستفقد قيمتها. وفي المقابل، سترتفع الاصوات مطالبة بتوسيع مروحة لائحة المساعدات المالية، وهذا ما سيحصل ايضا، وسنصل الى فوضى لوائح والى فوضى في طباعة العملة، والى انهيار كبير لليرة سيؤدّي الى ارتفاع منسوب الفقر، لا العكس.
السيناريو الثاني: سيتأخر إطلاق البطاقة التمويلية، وسيستمر الدعم العشوائي، عن طريق فرض الانفاق من الاحتياطي الالزامي، ولو انه غير معروف بعد اذا ما كانت عملية الفرض ستتمّ من خلال قانون في مجلس النواب، ام من خلال قرار حكومي يخضع له سلامة، ام من خلال استقالة او إقالة سلامة والمجيء بحاكم جاهز للتوقيع، أو ربما الاستمرار بلا حاكم واعتماد المجلس المركزي في مصرف لبنان كبديل مؤقت.
واحدٌ من هذين السيناريوهين مُرجّح، في حين ان المطلوب سيناريو ثالث مختلف، يستطيع ان يقوم به دياب، ولو انه في فترة تصريف اعمال. اذ في مقدور الحكومة ان تبدأ في مشروع بطاقة تمويلية بالدولار تشمل كل العائلات اللبنانية بلا استثناء. ويمكن الاكتفاء بـ100 دولار بالشهر للعائلة، مقابل رفع الدعم عن كل السلع باستثناء الطحين، وترشيد دعم الدواء لخفض الكلفة الحالية فوراً من حوالى مليار و100 مليون دولار الى 300 مليون دولار كحد أقصى.
ينبغي ان يتم تمويل هذه البطاقات بالدرجة الاولى من قروض خارجية يمكن توفيرها من خلال التفاوض مع البنك الدولي ومع صندوق النقد. وفي حال وجود نقص يمكن تعويضه من احتياطي مصرف لبنان. وبهذه الطريقة يمكن خفض الانفاق بالدولار الى نسب ضئيلة لا تشكل خطرا على الاحتياطي الالزامي. كذلك ينبغي فتح المجال امام المَيسورين لرفض الحصول على البطاقة، بحيث تُترك حرية القرار لهم، مع الجزم المسبق بأنّ قسماً منهم قد لا يتخلى عن البطاقة، وقد يأخذ المئة دولار، وهي ليست من حقه أخلاقياً، لكن نسبة الخطأ والهدر هنا، وكذلك الأضرار، ستكون أقل بكثير من لوائح الاستزلام، والذل والمحسوبيات والاخطاء التي ستطبع لوائح الحكومة في تصنيف العائلات المحتاجة وغير المحتاجة.
يبقى انّ اي اقتراح خارج اطار تطبيع الوضع لجهة تشكيل حكومة وبدء التفاوض مع صندوق النقد هو مجرد إجراء هزيل لأنّ الخيارات هي فقط بين السيئ والأسوأ. وبالمناسبة، لا بد من الاشارة الى ان لبنان، وفي حال تغيّر المشهد السياسي، وعاد بصيص الأمل وارتفع منسوب الثقة، قادر على الوقوف على رجليه في فترة قياسية نسبياً. ومن يقول ان لبنان فقد وظيفته الاقتصادية السابقة، وان عليه ان يبحث عن وظيفة جديدة في المرحلة المقبلة، قد يكون مصيباً، لكن الوظيفة الجديدة جاهزة. انه الاقتصاد الرقمي الذي تشير الاحصاءات الى انّ نسبة مشاركته في الدخل الوطني ترتفع باضطراد، خصوصاً في الدول الناشئة، ودول العالم الثالث. ومن بين أكبر 30 دولة من حيث الإيرادات من الخدمات الرقمية كحصة من الناتج المحلي الإجمالي، هناك 16 دولة في العالم الناشئ. وتُظهر الارقام ان ايرادات هذا الاقتصاد باتت تساهم في 6,9 % من الدخل الوطني (GDP) في الولايات المتحدة، في حين ان هذه النسبة ترتفع اكثر بكثير في دول ناشئة مثل اندونيسيا مثلاً.
من خلال الكادرات البشرية المتوفرة، وانطلاقاً من كونه دولة ناشئة، يستطيع لبنان ان يبني اقتصادا رقميا فاعلا، يخدمه ويخدم دول المنطقة. واذا كانت كينيا ومصر ودول أخرى تسجل نجاحات في هذا المضمار، من باب الأولى اعتبار لبنان بقدراته البشرية الاكثر تطورا من تلك الدول، جاهز لهذا الدور الذي أصبح حالياً العلامة الفارقة في اقتصاديات الدول في ظل العولمة. انها الوظيفة الاقتصادية الجديدة الملائمة للبلد في المرحلة المقبلة.