كتب نوال نصر في نداء الوطن:
المعرفة فنّ لكن التعليم فنّ آخر قائم في ذاته… فهو جواز سفر الى المستقبل… لكن، من يراقب “فنون” التعليم في وطنٍ مضرّج بألف لوثة ولوثة يدرك أننا في عنق زجاجة نختنق! فها هو هذا القطاع التعليمي في لبنان في مواجهة كل أشكال الموت. والكلّ، الكلّ، يتفرّج ويخرج بسيناريوات أحلاها مرّ. فهل علينا أن ننعى التعليم والمعلمين والطلّاب في لبنان الآتي؟
لأن المعلم الناجح أحد أهم أعمدة بناء التعليم الناجح فلنسأل أحد أعمدة التعليم فيه عما يؤول إليه حال التعليم في البلد. فلنسأل مدير ثانوية كفرا الرسمية الناشط النقابي الأستاذ فؤاد إبراهيم: ماذا علينا أن ننتظر بعد؟ هو سبق ووجه رسالة الى الطلاب، بعدما صمّت آذان المسؤول، بقوله: “إشتقت لدخولكم وخروجكم وانتظاركم وملاحقتكم بين الطريق ومدخل الثانوية. واشتقت لرجفتكم ومحاولاتكم التخلص من العقاب. إشتقتُ لوقع أقدامكم وتصفّح وجوهكم والتأمل بسرّ عيونكم واشتقت أن أقول لكم: أنتم في أمان”. فهل يستطيع اليوم بعدما طلب وزير التربية من الثانويات فتح أبوابها في 21 نيسان قول ذلك؟ هل الطلاب في أمان والأساتذة في أمان وقرار الوزير في أمان والمستقبل التعليمي في أمان؟ ها قد مضى أسبوع على بدء سريان قرار معاليه الإفتراضي والثانويات تستمر مقفلة.
وكيف تفتح؟ وهل يكفي أن يقول الوزير: كن فتكون المسائل حتمية؟ يجيب الأستاذ فؤاد ابراهيم: “نعيش جميعاً في لبنان والقطاع العام في شكلٍ خاص أزمات مستجدة متراكمة ناتجة عن الإهمال المتمادي نتيجة تشجيع القطاع الخاص دون سواه والأزمة الصحية المتمثلة بجائحة كورونا، وأهم منها الجائحة الإقتصادية التي جعلت موظفي القطاع العام وموظفي الثانوي في الدرك الأسفل. ما تركت كل موظفي الدولة، وبينهم الأساتذة بالتحديد، في غضب وفاقة وانفعال، ووضعت وزارة التربية في مواجهة مع الأساتذة الذين ما عادوا قادرين على شراء لا الغذاء ولا الدواء. هبطت رواتب الأساتذة الثانويين من 2000 دولار (ثلاثة ملايين و500 ألف ليرة) الى 290 دولاراً. والخير الى الأمام. ولبنان بات “الطش” لجهة الرواتب، بموازاة أثيوبياً وغامبيا، والأول في الفساد. والأستاذ المدعو لينتقل يومياً الى مدرسته لا يمكنه أن يفعل هذا كل صباح وهو يقف على طابور محطات البنزين والأفران والصيدليات وينتقل “بهامته” مرفوع الجبين الى مدرسته لا مكسور الجبين. فهل هناك من ينتبه الى هذه النقطة”.
لبنان “الطش”. لبنان يعاني وهناك من “يتفلسف” إعلامياً ويضع خططاً يُسقطها “إسقاطاً” على حالات تعاني. فثمة إحباط يستشري بين الأساتذة، كما كثير كثير من اللبنانيين، وستنعكس حتماً على سائر المجتمع وقدرة الأستاذ على التعليم وقدرته على “المقاومة” والتكيف.
كل همّ الوزير الخطة التربوية. ممتاز. لبنان يتميّز بتعليمه وخريجيه لكن، هل سأل ماذا عن الضمانات التي ستُعطى للأساتذة في بلد مفتوح على أزمات؟ فالأستاذ، بحسب إبراهيم، إنسان أولاً، وسلاحه الوحيد طبشورة وقلم ودفتر وكتاب في مجتمع لم يعد للأدوات الأربع فيه قيمة. ويستطرد مدير ثانوية كفرا بالقول: حين سُئلت أنجيلا ميركل: لماذا لا تتساوى كل الرواتب مع رواتب الأساتذة؟ أجابت بسؤال: كيف أساويكم جميعاً مع من علّمكم؟”. هذا في ألمانيا أما هنا فالأستاذ جاع. اللبنانيون عموما جاعوا. ونحن في الحضيض.
وزير التربية طارق المجذوب وعد الطلاب قبل عشرة أيام، في 19 نيسان الماضي، بخبر سار سيسمعونه يتعلق بالإمتحانات الرسمية وذلك من خلال مقابلة سيدلي بها، في تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً، الى شاشة العربية. سهر الطلاب وأهاليهم علّ الوزير يفاجئهم فسمعوه يقول: ان موعد الإمتحانات الرسمية ثابت ولن يتغيّر”. جميلٌ جداً هذا الكلام “فتجربة الإفادات غير مشجعة”. لكن، هل تأمنت كل الظروف الى ذلك؟ يجيب مصدر تربوي “أن الوزير قدّم خطة دعا على أساسها الى العودة الى المدارس والثانويات واختار يوم الأربعاء في “نصّ الجمعة” لذلك. وهذا غريب. وطالب الطلاب بانتظارِ خبره السار قرابة منتصف الليل ناسياً أن عليهم أن يناموا باكراً ليستيقظوا نشطين صباحاً في يوم “أونلاين” جديد. ولم يعر الوزير أي إهتمام الى أن تموز يفترض أن يكون عطلة الأساتذة، محدداً النصف الأول منه موعداً لإجراء الإمتحانات الرسمية. هذا ليس كل شيء. فصفوف الشهادات تُقسم الى أربعة: إقتصاد، علوم عامة، علوم حياة وآداب وإنسانيات. وفي كل قسم منها بين 12 و13 مادة. وهو خيّر الطلاب، الذين عليهم الآن متابعة كل المواد، إجراء إمتحان رسمي في مادة واحدة من بين ست مواد تعطى لأقسام الإقتصاد والعلوم ومادة من أربع تعطى الى الآداب. فهل يعتقد الوزير أن أي طالب، يعرف أنه سيُقدّم الإمتحان في مادة واحدة، سيُعير المواد الأخرى أي حساب؟ سيختار حتماً 97 في المئة من الطلاب مادة التاريخ.
يعقد وزير التربية ومديرة التوجيه والإرشاد في وزارة التربية هيلدا خوري لقاءات متتالية مع الروابط والمكاتب التربوية. وما يلفت الأساتذة أن هذين يحاولان إستمالة كل رابطة على حدة. فهما يصغيان الى طارق المجذوب وهيلدا خوري “ينقان” ويشكوان، حتى أن أحد رؤساء مصالح المعلمين قال للوزير في أحد اللقاءات: أنت الوزير، والحلّ يفترض أن يكون عندك لا عندنا”. ويلفت أستاذ ثانوي الى أن مديرة التوجيه والإرشاد تحاول إستمالة البعض من أجل تمرير الخطط كما تشاء وذلك من خلال الوعد بتوزيع مناصب وبينها منصب مديرة التعليم الثانوي الذي تشغله حالياً جمال بغدادي وستُحال في حزيران المقبل على التقاعد. وهي وعدت بهذا المركز منسق عام قطاع التربية والتعليم الحالي في تيار المستقبل خالد فايد. وهي بذلك تستخدم سياسة الجزرة والعصا كي تجعل من تعدهم يرضخون إلى قراراتها. هنا، حين يغوص الأساتذة في الأسماء يستذكرون خصال منسق قطاع التربية والتعليم السابق في تيار المستقبل وليد جرادي.
قوية جداً تبدو هيلدا خوري في وزارة التربية. وقراراتها تمشي. وجهاز الإرشاد الذي تديره يضم أكثر من ألف أستاذ، وهو، بحسب جهاز التفتيش، جدّ منتفخ. ويجري فيه انتقاء الأساتذة وفق أهواء من يعينهم، كون من فيه من أساتذة يعتبرون “محظيين”. هنا يتذكر أحد الأساتذة أن رئيسة جهاز التفتيش فاتن جمعة دعت هيلدا خوري في كانون الماضي الى المثول أمامها لاستجوابها لكنها لم تمتثل فعاقبتها بحسم عشرة أيام من راتبها. وطبعاً لم يعجب هذا القرار الوزير.
ما لنا ولها ولهم. فلندخل أكثر في شؤون الأساتذة والطلاب الواقعين بين شاقوفي الوباءين الصحي والإقتصادي. الأستاذ فؤاد إبراهيم يتحدث عن وجود 7000 أستاذ ثانوي فقط لا غير من أصل نحو 300 ألف موظف في القطاع العام “فهناك نقص في العدد. وأنا مدير ثانوية وأعلّم أربع ساعات مادة الإقتصاد مجاناً لعدم وجود أستاذ إقتصاد. نحن نعلّم و”نُعتّل” ونعمل في المدرسة فراشين وطراشين و”سنكريي”. والبارحة رآني أحدهم أنقل كراتين فسألني: أين المدير؟ أجبته: ليس هنا. وكلّ هذا ولا أحد يبالي بنا”.
يتحدث ابراهيم عن “خطة الوزير” فيقول “يفترض أن تتّسم أي خطة بالمرونة لتنجح لا أن تسقط “بلوك” على رؤوسنا. فنحن ثابتون غير ان الظروف متحركة. ونحن طبعاً ضدّ الترفيع العشوائي ونعتبره مدمراً. إنه كارثة تربوية. نحن مع إجراء الإمتحانات لكن ليس في آخر تموز. فالطلاب في مدرستي ينجزون البرنامج بعد عشرة أيام فلماذا أتركهم حتى تموز؟ هناك طلاب لم يتعلموا؟ ربما، لكن يوجد لدينا أساتذة إرشاد وتوجيه فليتفضلوا ويهتموا بالطلاب المتأخرين. فليأخذوا إجراءات نافعة لا أن يتعاملوا مع الأستاذ “كآلة حيّة”. فليتعاملوا مع كل مرحلة بمرحلتِها ما دمنا في بيئة مثل الرمال المتحركة، لا يمكننا وضع أقدامنا كثيراً فيها خشية أن تنزلق التربة بمن فيها”.
ننصت الى الأساتذة فنشعر بكمّ الوجع الذي يشعرون به. ننصت الى الطلاب فنشعر بمقدار القلق الذي يمرون به. ننصت الى وزارة التربية فنراها ليست واقعية في أحيان كثيرة.
ماذا عن الطلاب الثانويين؟ هل سألهم احد رأيهم؟
مسؤول رابطة طلاب الشمال عبد القادر الأيي يتحدث عن “تحرك مرتقب لطلاب ثانويات كل لبنان قريباً” ويشرح “نحن ندرس حالياً كل الوقائع والخطابات كي نكون “بنائين” في قرارنا. فنحن لا نعترض لمجرد الإعتراض من دون إقتراح حلول بديلة. ويستطرد بالقول: الدولة لم تستطع حتى اللحظة تأمين اللقاح الى جميع الأساتذة وهي عاجزة عن إجراء إمتحانات على دفعات لأنها ستكبدها مبالغ عاجزة عنها. والأهالي غير قادرين على دفع ثمن إنتقال أولادهم الى المدارس. لذا نتجه الى رفض خطة وزارة التربية جملة وتفصيلاً”.
والحل؟ يجيب: “نبحث في أربعة حلول: أولاً، الترفيع التلقائي. ثانياً، إعطاء إفادات لأصحاب الشهادات. ثالثاً، توقيف كل الإجراءات حالياً مدة ستة أشهر لنرى كيف ستتجه المسائل الصحية والإقتصادية في البلاد وعلى أساسها نقرر. ورابعاً، إلغاء العام الدراسي وإبقاء الطلاب في صفوفهم”. ما يقوله مسؤول رابطة طلاب الشمال، حول إبقاء كل الطلاب في صفوفهم وعدم ترفيع أحد، قد لا يعجب الكثير من الطلاب، خصوصاً أصحاب الكفاءات منهم. فهل انتبه الى هذه المسألة؟ يجيب: “نحن نعي أن 80 في المئة من الطلاب لم يتعلموا هذه السنة. وحرام أن يترفعوا. ولا نريد أن يدفع الثمن فقط من ليس لديهم المال في حين أن من يملكونه ينجحون”.
الكلام كثير. التحديات كثيرة. الخطط تتوالى. الحلول قد تضرّ أكثر مما تنفع. والثابت أننا على تربة متحركة.