كتب رامي الرّيس في نداء الوطن:
في السادس والعشرين من نيسان 2005، إنسحب الجيش السوري من لبنان على وقع الضغط الدولي الذي تولّد عقب إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط وتراكم تدريجيّاً ليصل إلى ذروته في تحقيق مطلب تاريخي لبناني لإستعادة الاستقلال وإنهاء حقبة الوصاية الطويلة بكل ذيولها وفصولها.
ثمّة حاجة جديّة لدراسة تلك الحقبة بكل عناصر تكوينها، بما يتيح البحث المعمّق في مسبّباتها وظروفها ونتائجها وهي التي كانت إنطلقت سنة 1976 واستمرت حتى العام 2005. وإذا كان الدخول العسكري السوري قد حصل بذرائع سياسيّة وعسكريّة معيّنة؛ إلا أنه شهد تحوّلاً جذريّاً بفعل التغيّرات الدوليّة والإقليميّة الكبرى. وسرعان ما تكشفت الأهداف الحقيقيّة من هذا التدخل العسكري الذي كان يرمي بشكل أساسي للإمساك بالقرار الوطني اللبناني المستقل وضرب الثورة الفلسطينيّة وشل قدراتها السياسيّة وغير السياسيّة لتطويعها في إطار بناء موازين القوى مع إسرائيل والاستفادة منها في أي جولة تفاوضيّة مقبلة.
ولكن بمعزل عن كل تلك الظروف والمناخات، ثمّة تساؤلات جوهريّة تتصل بحقبة ما بعد الإنسحاب العسكري السوري والتي كان من المفترض أن تشكل فرصة غير مسبوقة للبنانيين ليعيدوا تشكيل مناخاتهم الوطنيّة بما يتماشى مع المرحلة الاستقلاليّة الجديدة التي انبثقت بعد هذا الانسحاب (وكان قد سبقه الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب سنة 2000).
كان من المفترض أن يتم النفاذ من تلك اللحظة السياسيّة لإعادة صياغة تفاهماتٍ عامة حول الثوابت الوطنيّة التي كانت، ولا تزال، موضع اختلاف عميق بين اللبنانيين. لقد كان ذلك ممكناً بالفعل، وكانت المناخات المحليّة تتيح ذلك عبر الإستثمار الإيجابي للحظة الرابع عشر من آذار وما تلاها من أحداث وتطورات بالغة الأهميّة.
ولكن، كالعادة، اللبنانيّون يجيدون هدر الفرص، ويواصلون سياسات إرتباطاتهم المتنوعة بالخارج على حساب الداخل حتى ولو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنيّة العليا (التي قد تختلف التفسيرات بشأنها إلى درجة التناقض!)، وهذا ما حصل تماماً يومذاك. عوض الانطلاق من لحظة نادرة لتكريس التقارب اللبناني- اللبناني، حصل السير في الاتجاه المعاكس أي البحث في سبل تكريس الانقسام والتشرذم لأنه الوضع الأكثر ملاءمة لأطراف من هنا أو هناك، لتعميق نفوذها وتوسيع قاعدة سيطرتها على الواقع اللبناني بكل مفاصله.
إن التفسير المنطقي لهذا السلوك لا يخرج عن إطار الولاء التام للأجندات الخارجيّة التي لا تتلاءم بنودها مع قيام تفاهم لبناني وطني عريض يرسم خريطة الطريق السياسيّة والتنفيذيّة نحو قيام الدولة المستقلة. هل هناك من مصلحة بالفعل لبعض اللاعبين الإقليميين بأن يشهدوا دولة لبنانيّة قادرة على تحمّل مسؤوليّاتها وتأدية وظائفها بالشكل التام أسوة بكل دول العالم؟
تعود الذاكرة في هذا المجال إلى الإجتماعات المتتالية لهيئة الحوار الوطني بدءاً من الثاني من آذار 2006 التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري وعُقدت في ساحة النجمة. يومذاك، توصل المجتمعون إلى جملة من القرارات الهامة بالاجماع منها مثلاً: المحكمة الدوليّة، السلاح الفلسطيني داخل وخارج المخيمات، ترسيم الحدود مع سوريا وقضيّة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
باستثناء المحكمة الدوليّة التي كان مسارها خارجيّاً وأبعد من أن تطاله التجاذبات والتناقضات المحليّة؛ بقيت البنود الأخرى برمتها، حبراً على ورق. السيناريو نفسه تكرّر في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان إذ بعد الإقرار الجماعي لإعلان بعبدا، تم التنكر له وكأنه لم يكن، رغم أنه كان ممهوراً بموافقة جماعيّة كذلك.
حالة المراوحة السياسيّة التي تولدت جرّاء الانقسامات العميقة مرشحة للاستمرار، وقد أضيفت إليها نكهة تعطيليّة مؤسساتيّة دستوريّة تصب، بشكل أو بآخر، عند أصحاب الاجندات عينها!