كتبت رلى موفق في “اللواء”:
لا رهان على إمكانية أن يُحقّق الروس اختراقاً في الملف اللبناني يزيل العوائق أمام تأليف الحكومة. في الأصل، روسيا ليست بلاعب قوي على الساحة اللبنانية، ولم تتحوّل حتى اللحظة في هذا الاتجاه. وإن حصل يوماً ان اقتطعت حصة من كعكة المؤثرين في المشهد الداخلي، فذلك لن يكون في معرض التصادم مع الدور الأميركي بل بالتوافق والتكامل معه، من بوابة دورها في سوريا والضمانة القادرة على تقديمها للآخرين، بدءًا من إسرائيل وانتهاء بإيران الماضية في عملية تعزيز أوراقها في الميدان السوري أو اللبناني، وليس من بوابة طروحات المشرقية وسوقها الاقتصادي وحلف الأقليات وحماية مسيحيي الشرق التي يطرحها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ووريثه السياسي جبران باسيل، أو إنفاذاً لمشروع «محور إيران» في التوجّه شرقاً.
الاستعصاء الداخلي حمل باريس إلى الطلب من موسكو المساعدة من خلال دفع إيران إلى تسهيل تأليف الحكومة وإقناع السعودية بتليين الموقف تجاه الرئيس المكلف، وآل إلى تنسيق أوروبي وروسي مع مصر في هذا السياق. بات المسؤولون الروس ولا سيما المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ودول أفريقيا، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف على إطلاع دقيق بتفاصيل التعقيدات. الروس، كما الفرنسيون والأوروبيون عموماً والمصريون، على اقتناع بأن الطاقم السياسي لرئيس الجمهورية، ولا سيما باسيل، يتولون قيادة عرقلة تأليف الحكومة وفق المبادرة الفرنسية التي تشكّل الخطوة الأول المطلوبة من المجتمع الدولي على طريق مد يد العون للبلاد. لا نقاش هنا عما إذا كان باسيل يُشكل واجهة يقف وراءها «حزب الله» بوكالته الإيرانية فيما يخوض معركة إعادة الاعتبار لمستقبله السياسي المعطوب بفعل العقوبات الأميركية عليه، ذلك أن شلَّ دوره التعطيلي كفيل بأن يبلور الكثير من الإجابات.
لا تحامل سياسي على باسيل بالقول إن الرجل يعاني عزلة دولية. فهو لم يجد سنداً أوروبياً سوى من وزير خارجية المجر ما يظهر الانكفاء الأوروبي حياله بعد الحظر الأميركي. حتى إن مطلعين على أجواء الاتصالات مع الروس يقولون إن تأمين زيارة باسيل إلى موسكو لم تكن بسهلة، وأن ممثل رئيس الجمهورية أمل أبو زيد أعطى وعوداً للروس بأن باسيل سيتجاوب مع ما تطلبه موسكو منه وعلى استعداد كامل لإعطائهم ورقة تسهيل الحكومة، بما يعزز موقعهم في مقابل مواقع اللاعبين الآخرين. فباسيل المفتون بـ«خصوصية لبنان ودور المسيحيين المتناصف فيه»، يؤمن «أن بعض السياسات الدولية ساهم في تهجيرهم من الشرق»، ويأمل تالياً من السياسة الروسية في مشرقنا أن تساهم بتثبيتهم فيه وإعادتهم اليه ليتعايشوا ويتآخوا ويساهموا في سلام المنطقة.
كان البحث لدى الروس يقوم على أن تقتصر لقاءات باسيل الرسمية على بوغدانوف من دون لقاء مع وزير الخارجية سيرغي لافروف، غير أن الأمر استقر على تخصيص لقاء له مع رأس الدبلوماسية الروسية، ولا سيما أن موسكو عازمة على توسيع مروحة لقاءات مع القيادات اللبنانية لتشمل زعيم تيار «المردة» سليمان فرنجية الذي كان موعده محدداً بعد زيارة الحريري، لكن ظرفه الصحي الناجم عن آلام في الظهر استدعت تأجيلاً للموعد لما بعد خضوعه لعملية «ديسك» في فرنسا، كما أن تحديد موعد لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ينتظر أخذه للجرعة الثانية من لقاح كورونا، وسيكون هناك موعد كذلك لرئيس الحزب الديموقراطي طلال أرسلان.
السؤال الذي ستحمل الأيام المقبلة جواباً له يكمن في ما إذا كان باسيل قد أعطى ورقة تسهيل الحكومة للروس، أم أن ما جرى لا يعدو كونه مناورة لإظهار أنه ليس في عزلة خارجية أو محاولة لـ«تقطيع الوقت». ما فُهم من مطلعين على كواليس الخارجية الروسية أن المحادثات الروسية – الفرنسية في باريس توقفت عند النقاط العالقة في ما خص تركيبة حكومة «الثلاث أثلاث» لناحية الجهة التي تسمي الوزيرين المسيحيين ضمن الثلث المحسوب على الحريري، فكان هناك رأي مؤيد لفكرة أن يسميهم الحريري ما داموا من الوزراء الثمانية العائدين لحصته. يتوقع أن يكون المسؤولون الروس قد نقلوا ذلك لباسيل بطريقتهم الدبلوماسية، وبالتالي لا بد أن تحمل الأيام المقبلة الاتجاه الفعلي للدرب الذي قرر أن يسلكه، خصوصاً بعدما أعلن وزير الخارجية الفرنسي من مالطا بأن بلاده بدأت بإجراءات لمنع الدخول إلى أراضيها، لشخصيات تعتبرها معرقلة للعملية السياسية وضالعة في الفساد. اسم باسيل لن يكون محمياً من الإدراج على القائمة الأولى، وإذا أعطيت إليه «فرصة ما» بعدم إدراجه في القائمة الأولى وبقي على تعنته، فسيكون حكماً في ما سيلي من قوائم.
ليس من وهم أن مفاتيح الملف اللبناني هي في يد لاعبين رئيسيين مؤثرين: أميركا وإيران. روسيا عامل مساعد أكثر مما هي عامل مؤثر. لا شك أن لها مصالح استراتيجية في لبنان تتمثل بالنفط والغاز. فهي حاضرة في كونسورتيوم «توتال – ايني – نوفاتيك» الذي يستحوذ على حفر آبار النفط لاستكشافها، وهي حاضرة من خلال شركة روزنفت التي تعيد بناء خزانات النفط في الشمال. ولا شك أنها راغبة في أن تتحول قوة مؤثرة بعد تقدم دورها في المنطقة وحضورها الرئيسي في سوريا.
ما يهم موسكو هو استقرار لبنان أمنياً، وعدم ولوج الفوضى إليه كي لا يحرك المياه الراكدة في سوريا. فصحيح أنها حسمت المعركة عسكرياً لمصلحة بقاء النظام السوري، لكنها تواجه صعوبات في تثبيت ذلك وتحويله إلى استقرار سياسي واقتصادي، في ظل رفض أميركا والغرب ومعه دول الخليج إعادة إعمار سوريا قبل إنجاز الحل السياسي القائم على قرار مجلس الأمن 2254، وهو ما يبدو بعيداً في ظل مراوغة رئيس النظام بشار الأسد الذي يخوض انتخابات رئاسية لولاية جديدة. القلق لديها من أن الانهيار الكلي للوضع الاقتصادي في سوريا والانهيار المماثل للوضع في لبنان سيؤديان إلى فوضى وتحريك تلقائي للأرض، ما سيؤدي إلى استنزاف جديد لها معطوفاً على مزيد من الإرباك السياسي. لكن منع لبنان من الانهيار، قد يجنّبها تجرع الكأس المرة في سوريا. هنا هي المصلحة الروسية الأولى!.