كتب محمد علي دياب في الأخبار:
في كتابه «تطوّر الطبقة العاملة اللبنانية في الرأسمالية اللبنانية المعاصرة»، يشير الباحث اللبناني علي الشامي إلى العلاقة التاريخية التي تربط العمالة السورية بسوق الإنتاج في لبنان على اختلاف تفرعاته. مرفأ بيروت كان واحداً من تجليات هذه العلاقة؛ إذ كان السوريون، بحسب الشامي، يشكلون ثلث القوة العاملة فيه. والأمر نفسه ينسحب على بقية القطاعات الإنتاجية منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، مع انطلاق النهضة الاقتصادية في لبنان، والتي شكل العمال السوريون والفلسطينيون إحدى أهم ركائزها. واحد من جملة أمثلة حملها تاريخ كان بمثابة حبل سري تشاركه اللبنانيون والسوريون في السراء والضراء.
نتيجة يعرفها نور نصار جيداً. بعد غياب لسنوات، عاد الشاب العشريني الى بلدته في السويداء. 5 سنوات أمضاها في لبنان بحثاً عن «حياة جديدة». سنوات أشبعت ذاكرة طالب هندسة الاتصالات بالذكريات والتجارب.
مطلع عام 2016، قرّر نور تجميد دراسته الجامعية. حزم حقائبه ومضى الى وجهته الجديدة. في شارع الحمرا كانت البداية في مدينة غريبة. «كان الوضع صعباً للغاية». انتابته حالة نفسية سيئة انتفت معها لديه أي رغبة في العمل أو الإندماج في المجتمع المضيف. استمر على هذه الحال شهرين كاملين، إلى أن قرر «التحرك». فالظروف المعيشية في لبنان لا تحتمل التلكؤ أو الكسل.
كل شيء سار بشكل طبيعي. عمله في أحد مطاعم الجميزة، شرق بيروت، أمّن له نوعاً من الاستقرار المادي، وأفسح له المجال لاكتساب «خبرات جديدة»، يقول إنها كانت وسيلته الوحيدة للاستمرار. فالعيش في بيروت مختلف عن دمشق التي يعرفها. «بيروت مدينة ضبابية… بتضيع فيها إذا ما كنت قد حالك».
مساء الرابع من آب 2020 كان توقيتاً فارقاً في حياة سكان بيروت ومن بينهم نور. انفجار ضخم هزّ مرفأ العاصمة والمدينة كلها، مخلّفاً كارثة غير مسبوقة. أمتارٌ قليلة تفصل مكان عمل نور عن موقع الانفجار، ووحدها العناية الإلهية أنقذته… إلا من بتر في أصابع اليد اليمنى وعطل دائم في القدم.
نجح العلاج الفيزيائي في تخفيف الأضرار بدرجة كبيرة، إلا أن ما حصل دفع نور الى التفكير جدياً في تغيير مسار حياته. خسارة العمل والوضع المعيشي الصعب الناجم عن انهيار الاقتصاد اللبناني تركاه أمام خيارين لا ثالث لهما: البقاء – وهو أمر شبه مستحيل في ظروفه – أو العودة إلى سوريا. جمع «تحويشة العمر»، وزاد عليها بعضاً من مدّخرات العائلة لدفع بدل خدمة العلم (7000 دولار)، وعاد إلى السويداء حيث أسّس عملاً جديداً يأمل أن يعوضه عن سنين الغربة.
مبلغٌ يعجز أحمد عن تأمينه رغم أنه سبيله الوحيد للعودة إلى الرقة (شمال شرق سوريا). فحسابات رب العائلة تختلف عن حسابات الأعزب. أربعة أطفال وزوجة هم عائلة أحمد التي قرر إبقاءها في لبنان أمام ناظريه أياً كانت الظروف. 10 سنوات مضت على وجوده في بيروت، عمل خلالها أميناً لمستودع مؤسسة تجارية، قبل أن يضطر إلى البحث عن مصدر رزق جديد بعد إقفال المؤسسة أبوابها.
«منشتغل يوم ومنقعد عشرة»، يقول أحمد الذي انتقل للعمل في «الفعالة» التي بالكاد تكفي لسد رمق عائلته. ارتفاع الأسعار وتدني قيمة الدخل جعلا من مهمة النهوض بأعباء العائلة أمراً صعباً، خصوصاً أن «اليومية» لا تتجاوز في أغلب الأحيان 50 ألف ليرة، أي أربعة دولارات، وهو رقم لا يساوي ثلث ما كان يتقاضاه العمال السوريون سابقاً، ولا يكفي لشراء عبوة زيت.
الواقع الذي قرر أحمد التأقلم معه لم يكن مناسباً لحمزة السيد. الثلاثيني، والأب لطفل واحد، استأجر لعائلته الصغيرة منزلاً متواضعاً في مسقط رأسه في درعا جنوب البلاد، لتكون قرب من أهله الذين سبقوه في العودة قبل 4 سنوات.
إجازة الاقتصاد التي يحملها لم تمنحه فرصة عمل ملائمة، ما اضطره إلى العمل في مهنة الحجر الصخري. مهنةٌ تحتاج إلى كثير من الجهد العضلي، ضمنت حياة كريمة لعائلته، وكان يعمل خمسة أشهر ويرتاح بقية العام في انتظار الموسم الجديد.
هذه الرفاهية لم تعد متاحة اليوم، الـ3000 دولار التي كان يتقاضاها صارت حلماً. انهيار العملة اللبنانية جعلها تعادل نحو 300 دولار، تذهب مئتان منها لإعالة عائلته وأهله في سوريا، فيما يكتفي هو بالمئة الباقية لتأمين مأكله ومشربه… في انتظار أول دولة أوروبية تفتح له أبوابها، فلبنان لم يعد صالحاً للعيش، «بيروح عمرك وإنت بمكانك».
نور، أحمد وحمزة، نماذج عن واقع العمال السوريين في لبنان، خصوصاً في ظل الأزمة الآخذة في التفاقم. هؤلاء عالقون اليوم في دوامة الخيارات، «قدمٌ في سوريا وأخرى… في المجهول».