كتب حسن المصطفى في العربية:
عندما بثت قناة “إيران إنترناشيونال”، أجزاء من التسجيل المسرب لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، نشرت صحيفة “وطن أمروز” الإيرانية، ذات التوجه الأصولي، مقالاً كتبه كميل نقي بور، حمل عنوان “حقير”، في وصف شديد القسوة تجاه ظريف.
الآن، وبعد أكثر من أسبوع على التسريبات، وبُعيد كلمة مرشد الثورة آية الله علي خامنئي، الأحد 2 أيار الجاري، أظهرت “وطن أمروز” في صدر صفحتها الأولى عنواناً إلى جانب صورة المرشد: “تأديب ظريف”.
آية الله خامنئي انتقد الوزير ظريف دون تسميته، حيث جاء في كلمته “قال بعض المسؤولين أشياء مؤسفة، وسائل الإعلام المعادية تنشر هذه الكلمات”. إلا أن وكالة “تسنيم الدولية للأنباء”، المقربة من “الحرس الثوري”، سمت وزير الخارجية في نص خبرها الذي أوردته، حيث كتبت “انتقد سماحته التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية محمد جواد ظريف، معتبراً ان هذه التصريحات هي تكرار للتصريحات المعادية للأعداء والأميركيين”.
هذه مجرد أمثلة، من عشرات، ضمن حملة ممنهجة يقودها “المتشددون” عبر منصات إعلامية مختلفة، من أجل إضعاف الوزير ظريف، و”إعدامه سياسياً”!
قراءة مختلفة
في الوقت الذي تشنُ فيه الصحف المقربة من “الأصوليين” في إيران نقداً لاذعاً لوزير الخارجية محمد جواد ظريف، فإن “معظم الصحف القربية من الحكومة والإصلاحيين والمعتدلين، لدى نقلها أقوال المرشد خامنئي، اختارت قوله ’السياسة الخارجية لا تحددها وزارة الخارجية’، كعنوان رئيسي، لتبعث رسالة إلى من ينتقد المفاوضات من المتشددين، بأن هناك سلطات عليا هي التي تقرر السياسات، وليس وزارة الخارجية التي تنفذ هذه السياسات”، بحسب الصحافي والمحلل الإيراني في قناة “العربية” مسعود الزاهد، الذي ضرب مثالاً بصحف “اعتماد” الإصلاحية، و”إيران” الحكومية.
مرشد الثورة خامنئي، وفي كلمته تحدث صراحة عن أن “السياسة الخارجية في أي بلد في العالم لا تحددها وزارة الخارجية، بل يتم تحديدها من قبل السلطات العليا في البلاد”، مضيفاً “ليس القرار بيد وزارة الخارجية.. المجلس الأعلى للأمن القومي، والمسؤولون المعنيون يقومون بتحديدها”.
حديث المرشد يشير صراحة إلى أن “وزارة الخارجية” هي جهة تنفيذية، وبناء على ذلك، فإن المفاوضات التي تجريها إيران مع القوة الغربية في العاصمة النمساوية فيينا، حول ملفها النووي، ما هي إلا تنفيذ لسياسات رسمتها الدائرة الصغرى المعنية بالقرار الإيراني، وعلى رأسها آية الله خامنئي، الذي يمنحه الدستور صلاحيات واسعة في الإشراف على السياسة الخارجية والقضايا الإستراتيجية والأمن القومي.
سياسة خامنئي!
رغم أن خامنئي كان صريحاً في دفاعه عن “فيلق القدس”، وقائده قاسم سليماني، وكان أيضاً واضحاً في نقد تصريحات محمد جواد ظريف، دون أن يسميه، إلا أنه حافظ على مسافة تفصله عن موقف “الأصوليين”، وتصرف من موقعه كـ”رجل دولة”، دون أن تأخذه “الحماسة المفرطة” للطلب بـ”رأس ظريف”!
كان المتشددون يتوقعون أن خطاب آية الله خامنئي سيكون “عنيفاً” و”يسمي ظريف باسمه”، إلا أنه تجنب ذلك، ويبدو أن هذا التصرف كان يهدف لعدة أمور:
1- يسعى خامنئي لأن يكون متعالياً على الاختلافات بين معسكري “الأصوليين” و”المعتدلين”، خصوصاً بعد النقد الشديد الذي وجه له، بوصفه يمثل مظلة تحمي “المتشددين”، وأنه منحازٌ لهم قبالة حكومة الرئيس حسن روحاني. وهو نقد قالته صراحة شخصيات عدة، مثل فائزة رفسنجاني، إبنة الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني.
لقد كان مؤسس الثورة الإيرانية آية الله الخميني، بمثابة حاضنة لـ”السائرين على خط الإمام” المختلفين فيما بينهم. ففي زمنه كان هنالك تياران ثوريان رئيسيان: “روحانيت مبارز”، الذي من أبرز شخصيات: مهدوي كني، هاشمي رفسنجاني، ناطق نوري؛ وتيار “روحانيون مبارز”، والذي ضم: مهدي كروبي، موسوي خوئینی ها، علي أكبر محتشمي. هذان التياران رغم كونهما من “صلب الثورة”، إلا أنه كان بينهما تنافس واختلاف كبير في وجهات النظر السياسية والثقافية والاقتصادية، وفي وقت شدة التباينات، كانوا يلجؤون للخميني لحل مشكلاتهم.
على سبيل المثال، إبان رئاسة السيد علي خامنئي للجمهورية، رشح خامنئي الوزير السابق علي ولايتي لرئاسة الوزراء، قبالة السيد مير حسين موسوي، إلا أن الخميني تدخل حينها، ورجح كفة موسوي، الذي تولى رئاسة الحكومة.
هذا الدور الذي كان يمارسه داخلياً آية الله الخميني، يسعى خامنئي للقيام به، ولو جزئياً، كونه يعلم أنه لا يملك كاريزما الخميني، ولا أسبقيته في الفقاهة والزعامة، ولا حتى نظرة الفرقاء المختلفين له، بوصفه “القائد والأب”!
2- إنقاذ الاتفاق النووي، الذي تم توقيعه العام 2015. هذا الاتفاق رغم عدم رضى المرشد خامنئي الكامل عنه، إلا أنه أتى بمباركته وتحت حمايته. وهو يعلم أن إيران في حاجة ماسة لإعادة إحيائه، وذلك لتخفيف القيود الاقتصادية الخانقة التي انهكت الاقتصاد، ورفعت معدلات البطالة، وأدت إلى حدوث تضخم، زاد من أسعار السلع والمواد الغذائية. وعودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، من شأنها أن تكون “طوق نجاة” للنظام، لا يريد مرشد الثورة تفويتها، حتى وإن جاء التوقيع الجديد بطريقة لا ترضي “الأصوليين” الأكثر تشدداً.
3- الاستفادة من الفترة المتبقية لحكومة الرئيس حسن روحاني وفريقه الوزاري، من أجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، يستفيد منها الرئيس الإيراني القادم، والذي على الأرجح سيكون قريباً من فكر وسياسيات المرشد، وهذا الأمر سيصب في صالح السياسات التي رسمها خامنئي، وسيقطف ثماراً زرعها روحاني وفريقه – إن حصلت – دون أن يستفيد منها “الإصلاحيون” أو يستثمرونها بشكل كبير في الانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو القادم.
4- عدم منح القوى “الأصولية” أكبر من حصتها وحجمها الحقيقي، وذلك خشية عدم القدرة على التحكم فيها مستقبلاً. ومن المفيد استذكار تجربة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، والذي حصل على دعم من آية الله خامنئي، قبالة الراحل هاشمي رفسنجاني، وكانت النتيجة أن بات نجاد يتصرف وكأن لديه “تفويضاً مطلقاً”، ما أضر بالسياسة الإيرانية الخارجية، وأزم العلاقة بين الفرقاء في الداخل، وفي ختام رئاسته خسرَ ثقة المرشد، الذي ابتعد عنه!
يعلم خامنئي أن القوى المتشددة هي مثل “الوحش الضاري”، الذي لا يمكن أن تتوقع تصرفاته، حتى لو كان مؤمناً بـ”ولاية الفقيه”، إلا أنه من الممكن أن تصدر منه تصرفات عنيفة وفوضوية تتجاوز المرشد. خصوصاً أن هنالك من هم في إيران، ينظرون لآية الله خامنئي بأنه “فرط في إرث الخميني”، وبالتالي يجب الحذر من “يمين اليمين” والذي لديه بذرات عنفٍ كامنة!
من جهته، مدير مشروع إيران في “مجموعة الأزمات الدولية”، علي فياض، وفي تغريدات له عبر منصة “تويتر”، اعتبر أن “خامنئي يحاول إنهاء الخلاف حول ثنائية الدبلوماسية والعسكر، بأقل قدر من الضرر، ودون تأثير كبير على المحادثات النووية”.
انحناءة ظريف!
عبر حسابه في “إنستغرام”، المنصة الأثيرة لدى الإيرانيين، كتب الوزير محمد جواد ظريف “يؤسفني جداً أن بعض وجهات نظري الشخصية، التي تم التعبير عنها فقط من أجل النقل الصادق للتجارب وبدون نية النشر، تم سرقتها ونشرها واستغلالها بشكل انتقائي، واستخدامها كمصدر للعداء من قبل من يكنون بالعداء للبلاد والشعب والثورة، وتسبب ذلك فی تضييق بال مقام القائد المعظم”، مؤكداً أن “الملاحظات المشفقة للقائد المعظم، هي نهاية الكلام، ونقطة الختام للمناقشات التخصصية”.
قبلها، نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية، أن الوزير ظريف لم يقصد “خدش مشاعر” أسرة قاسم سليماني، وتحديداً ابنته “زينب”، وفق التقرير الذي نشره موقع “العربية.نت”.
هذه المواقف من قبل وزير الخارجية الإيراني، هي بمثابة انحناءة أمام العاصفة، ورغبة منه في عدم المواجهة المباشرة، خصوصاً أن رسالته وصلت بكل وضوح، وليس هنالك ما يضيفه، وأن المواجهة من شأنها أن تؤثر على مسار التفاوض في فيينا، الذي يرغب ظريف في إنجازه قبيل مغادرته الوزارة، رغم معرفة بصعوبة ذلك.
المستقبل السياسي
آب 2013، نشرت وكالة “بلومبيرغ” تقريراً حمل عنوان “روحاني يستعين بوزير تلقى تعليمه في الولايات المتحدة لإنهاء العقوبات على إيران”، جاء فيه أن ظريف “شارك في العديد من المفاوضات السرية بين الولايات المتحدة وإيران، على مدار العشرين عاماً الماضية”، دون أن يغفل التقرير مهارات ظريف، وإتقانه الإنجليزية، وحصوله على الدكتوراة من جامعة “دنفر”.
ظريف الذي كان ممثلاً للجمهورية الإسلامية الإيرانية في الأمم المتحدة منذ العام 2002 وحتى 2007، أبعده موقتا الرئيس السابق أحمدي نجاد عن العمل السياسي، قبل أن يعود مع حكومة حسن روحاني، آب 2013، وزيراً للخارجية، وشخصية جدلية، رغم هدوئه وابتسامته المعهودة، إلا أنه كان دائماً ما يثير حنق الأصوليين، ويكون موضعاً لانتقاداتهم الدائمة.
الوزير ظريف، وفي وقت سابق، أبانَ أنه لا ينوي الترشح لرئاسة الجمهورية، وأنه يعتزم التقاعد، والعودة إلى أروقة الجامعات والبحث العلمي، فهل تسرعُ “أزمة التسريبات” في تحقق هذه الأمنية، وتضع حداً للحياة السياسية لظريف؟
الباحث المختص في الشؤون الإيرانية، حسن فحص، يرى أن التسريب الصوتي “أفقد الاصلاحيين ورقة رابحة للمساومة على الانتخابات الرئاسية وحصتهم في السلطة، وقدم في المقابل خدمة مجانية للمحافظين بالتخلص من التحدي الحقيقي الذي قد يشكله (ظريف) في حال دخوله السباق الرئاسي”، مضيفاً في مقالة نشرها الأحد 2 أيار الجاري، أن ما حدث “تحول الى تصفية لهذه الشخصية التي ساهمت في رسم علاقات إيران الخارجية، على مدى عقود أربعة، واعداماً لماضيه ومستقبله السياسي”.
فحص اعتبر أن الوزير ظريف، وفي حديثه الصريح “قدم بنفسه حيثيات الإدانة للجلاد، الذي لم يجد صعوبة في إصدار حكمه”.
حتى الساعة، أغلب الدلائل تشير إلى أن ظريف لن يكون مرشحاً للانتخابات الرئاسية الإيرانية القادمة، وإذا رشح نفسه، فعلى الأغلب لن يتم قبول ترشحه، وسيتم رفضه من قبل مجلس “صيانة الدستور”، كما حدث مع الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني.
بُعيد انتهاء عمل ظريف في “وزارة الخارجية”، قد يضطر إلى الخروج من إيران، ابتعاداً عن مضايقات التيار “المتشدد”، وربما يستقر في الولايات المتحدة، مدرساً في إحدى جامعاتها، أو كبير الباحثين في مركز أكاديمي مختص.
لو قرر ظريف أخذ خيار مغادرة إيران، فلن يكون الأول من “أبناء الثورة وقادتها” الذي يختار “المهجر”، فقد سبقته شخصيات مثل الوزير السابق عطاء الله مهاجراني، والمثقف البارز عبد الكريم سروش، والشيخ محسن كديفر.. والسيد علي أكبر محتشمي، وسواهم.
إيران بلدُ “غير المتوقع”، ولذا، فإن الحكم القاطع بنهاية المستقبل السياسي لمحمد جواد ظريف، غير ممكن القولُ به حالياً، فقد تحصل هنالك تبدلات سياسية أو شعبية أو اقتصادية تجبرُ النظام وقادته على ابتلاع “علقمِ التسريبات”، وتغليب مصلحة وطنية عُليا، والإبقاء على ظريف، رغم ما أصاب صورة “الحرس الثوري” وقائد “فيلق القدس” قاسم سليماني من اضرار، قد تدفع لنقاشات مستقبلية أكثر حيوية، تجعل الدبلوماسية تتقدم على “العسكر”، وتمنح “المعتدلين” مساحة أكبر للعب أدواراً سياسية ترفع عن طهران عزلتها، خصوصاً أن “الكرة في ملعب إيران، وعليها أن تقرر إما آن تكون جارة متعاونة، لا شر منها، وجزء من المجتمع الدولي، أو أن تكون جارة سيئة، منبوذة من غالبية دول العالم، مثل نظام كوريا الشمالية”، كما يقول دبلوماسي خليجي سابقٌ لـ”العربية.نت”، وهذا الدور لا يمكن لـ”الحرس الثوري” القيام به، ويحتاج لشخصيات دبلوماسية تؤمن بالحوار الجاد والتواصل والعقلانية، وهي المهمة التي يستطيع وزير الخارجية محمد جواد ظريف، أو من هم على شاكلته، النهوض بها.