Site icon IMLebanon

بكركي ومفتاح طهران

كتب كارلوس نفاع في “الجمهورية”: 

آب 1895 أعاد مرفأ بيروت لبنان مجدداً بوابة المشرق بانطلاق اول قطار الى دمشق من أرصفته مرورا برياق. استولت المصارف الأجنبية على المرفقين في عملية عنكبوتية بدأت بوادر تكرارها اليوم بعد 125 عاما في 4 آب 2020 حيث تم تفجير المرفأ وعمقه الاقتصادي والعمراني الذي صمد أمام إجرام الميليشيات بين 1975 و1990 ولم يسقط في شباك «سوليدير» التي نهبت بيروت بالقانون 117/ 91 الذي أعطى الشركة صلاحيّة استملاك العقارات في وسط بيروت متخطياً المادة 15 من الدستور التي تحمي الملكية الفردية.

في الامس كان التنافس بين الضابط المتقاعد الفرنسي الكونت ادمون دو برتوي والمستشرق البريطاني لورينس اوليفنت، الأول نجح في شراء امتيازات بالجملة لمرفأ بيروت وسكك حديد بيروت ـ دمشق وتراموي دمشق وسكك حوران وصولاً الى حلب، والثاني عمل على ربط مرفأ حيفا بدمشق عبر سكك الحديد ولكن نجح منافسه بإيقافه عن العمل سنة 1889 رغم بدء الاعمال.

اليوم وانطلاقاً من مصالحها الاستراتيجية في شرق المتوسط، تعمل القوى الدولية لوضع اليد على مرفأ بيروت من وراء الكواليس عبر الشركات الصينية والفرنسية، والإيطالية والالمانية والروسية والاماراتية والمصرية والتركية. تسعى الاخيرة للتوازن مع الروس الذين يتحكمون بمرفأ اللاذقية، في حين يتنافس تجار الهيكل اللبنانيون في ما بينهم بإطلاق الوعود السرية في أروقة موسكو لفتح أبواب طرابلس وبيروت وصور من أبواب الاستثمارت والسمسرات تحت مظلة رعاية تشكيل حكومة بيع البلد. بينما تسعى فرنسا لاستعادة مفاتيح بوابة المشرق لكبح مبادرة الحزام والطريق الصينية عبر دعمها تشكيل حكومة الإصلاحات التي تؤمن الصفقة تحت مظلة الاعمار.

في الامس باع أحد أكبر وجهاء بيروت في ذاك الزمن حسن بيهم وزميله يوسف بك مطران الامتيازات التي حصلوا عليها من الباب العالي، للكونت دو برتوي الذي بدوره باع للبنوك الأجنبية الشركات المشغلة بعد انشائها من أموال المساهمين مدعياً الافلاس.

واليوم يسعى زعماء الحرب الذين دمروا لبنان وفجروا بيروت لاستكمال محاصصاتهم تمهيداً لبيعها للدول عبر شركات عدة، طامعين بتعويم منظومتهم المافيوية بعدما أفسدوا وافشلوا كل مرافق الدولة وأفلسوا البلاد عمداً بالتكافل والتضامن.

بالإضافة إلى ذلك، فخيارات «حزب الله» إيرانية صرف. فلا تسهيل لأي تعاون قبل الوصول الى اتفاق السلة الكاملة المطروحة في المفاوضات الايرانية ـ الأميركية غير المباشرة في سويسرا، فالبوصلة تتجه شرقاً لتسليم كل ما تبقى لبكين على خطى طهران، ويعمل فريق الحزب بعيداً عن الأنظار، والشارع جنح من دون ان يدري الى فخ في الظاهر هو حق وفي التوقيت يُراد به باطل عبر طرح شعارات الغاء الوكالات الحصرية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والخروج من الاقتصاد الريعي، لغاية في نفس يعقوب، لإحضار كل فلول وكلاء السياسيين للسلطات المنتدبة السابقة من 1990 حتى اليوم الى بيت الطاعة الجديد.

من هنا إذا نجح الصينيون في شراء ميناء بيروت وغيره من مرافق البلاد من باب الاستثمارات للنهضة، فإلى أي مدى ستهتز ديبلوماسية الاتحاد الاوروبي؟ فهل ستتزعزع وحسب، ام سيهيمن الصينيون على المنطقة ديبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً، وحتى ثقافياً؟

بالإضافة الى ذلك، فإن منطقة البحر الأبيض المتوسط بكاملها، حيوية لأمن القارة العجوز، فإذا استولى عليها الصينيون، فقد يسقط مدماك وأكثر من الامن الاقتصادي أولاً والعسكري ثانياً وتصبح الطريق نحو القارة السمراء من أوروبا تحت وابل التدفقات التجارية الصينية. انّ استراتيجية طرق الحرير الجديدة التي أطلقتها بكين تهدف إلى السيطرة على النقاط الرئيسية والممرات الاقتصادية لمصالحها وحدها. فالسيطرة على بيروت ستسمح لها بربط مرفأي بيروت وطرابلس بمرفأ بيرايوس الذي استحوذت عليه في اليونان ومرفأ جينوا الإيطالي الذي حصلت فيه على امتيازات خاصة. كما يمكنها من بيروت الإطباق على مرفأي مرسين التركي والاسكندرية المصري، مُمسكة بذلك بمثلث الازدهار المشرقي خصوصاً انها تتقدم تحت ضغط الازمة الاقتصادية في تركيا ومصر، مما يسهّل أن تصبح هذه الدول، مع إيران، مرتكزات للديبلوماسية الصينية الدولية، من باب الاستثمارات.

وفي ضوء اعلان ورقة التفاهم الاقتصادية العسكرية بين إيران والصين هل تكون بيروت طبق المقبلات الشرقية الأول للضغط على الأوروبيين والأميركيين في المفاوضات؟

فالصين اليوم وفي شكل واضح تعتمد استراتيجية الاحتواء مستخدمة الديبلوماسية التجارية في الشرق الأوسط، واهمها من باب الموانئ ذات البعد الجيوسياسي والعسكري. وبالإضافة إلى وظيفة الموانئ التجارية، يمكن استخدامها في أي وقت لاحقاً للأغراض العسكرية وهذا ما ظهر في ورقة التفاهم الصينية ـ الإيرانية.

وفي حين يتحرك الأوروبيون نحو منطقتنا في الشرق الأدنى وإيران وباكستان وأفغانستان في الشرق الاوسط، لضمان عودة مفترضة للتكوين الجيوسياسي الشبيه للقرن التاسع عشر في مرحلة محمد علي التي قسمت السلطنة العثمانية وجعلت منها عالماً ثنائي الاقطاب، دخل الغرب عبر شقوقه لتثبيت مصالحه الحيوية. ومع الولادة الاصطناعية لعالم ابراهيمي جديد محوره الامارات وركيزته إسرائيل ومرتبط بالولايات المتحدة من جانب، ومن ناحية أخرى امام تَرنّح مجموعة من الدول الإسلامية بين طهران واسطنبول، يلعب زعماء الحرب في لبنان الورقة الصينية بسقفها العالي وبورقة شريكها الروسي بحثاً عن صورة أوروبية تخفف من وطأة الصفقة، مهملين المبادرات الأوروبية التي تعتمد على الاصلاحات التي يدعو اليها صندوق النقد الدولي عبر شيطنته، وفي الوقت نفسه يهدرون الوقت لمصلحة الانهيار الشامل، فلا صراخ الاقتصاديين اللبنانيين ولا حتى تصريحات الخبيرين الدوليين جاك دو لا روزيير وستيف هانكي حول ضرورة اعتماد مجلس النقد، لكبح انهيار العملة الذي ما زال ممكناً، حركة ما تبقى من ضمائرهم.

ولهذا «كلن يعني كلن» لا يعنيهم طرح المؤتمر الدولي وحياد لبنان اقتصادياً وسياسياً الذي ينادي به البطريرك الراعي. فالمؤتمر الدولي يعني وضع لبنان تحت المجهر ويسقط إمكانية صفقات الغرف السوداء.

طرح الحياد تحت مظلة دولية غير مرغوب فرنسياً حتى هذه اللحظة، لأنه يحتم حضوراً اوروبياً على حساب فرنسا، وطبعاً غير مرحّب به ايرانياً لأنه يخرج لبنان من بازار المفاوضات الحالية قبل أوانه. والاهم انه مرفوض لدى إسرائيل لأنه يحيي هذا النموذج التعددي الاتحادي المناقض لكيانها في فلسطين.

طرح الحياد هو الوحيد «صنع في لبنان»، وسيحمله البطاركة لأجيال الى ان يتحقق، وتجاهله سيكون تفضيلاً لمصالح الاخرين على مصلحة لبنان. ولمن يعتقد أننا نشهد انفصالاً استراتيجياً عن الهوية التأسيسية التعددية الجامعة، نقول: لا لن ينجح الامر، لأن الإنسان أسير الجغرافيا التي تستعيد التاريخ. هذه الجبال هي بيت العروبة الذي بناه المعلم بطرس البستاني، وجوهرة إسطنبول التي انتقى سلطانها موارنة الملحمي ليكونوا وزراء بلاطه، وفي بكركي مفتاح طهران الذي تركه الامام الصدر امانة ليكون الرابط بالعالم الجديد. لا يمكن للبنان الا ان يكون ذاته هو هو الامس واليوم وغداً «لبنان الرسالة».