Site icon IMLebanon

سلوك القاضية عون يُحرّك النقاش حول استقلالية القضاء

كتبت مريم سيف الدين في “نداء الوطن”:

يفترض بالقوانين والقضاء والأجهزة الأمنية أن تكون أدواتٍ لإحقاق الحق والعدالة. لكنها تستخدم في لبنان كأدوات لإفلات المجرمين من العقاب. بل وباتت في أحيان كثيرة تسخّر لإحقاق اللاعدالة، على عكس الدور المنوط بها. وهو ما يوافق عليه النائب والقاضي السابق جورج عقيص. إذ باتت أحكام القضاء مرتبطة، في معظم الأحيان، بمشاريع وحسابات سياسية. فغابت العدالة حتى أننا وفي ظلّ الوضع المعيشي السيئ نقف بذهول أمام الأمن النسبي الذي يتمتع به لبنان في ظل تحلل مؤسسات الدولة.

الأكيد أن الأمن النسبي ليس نتيجة جهد المسؤولين بل هو رادع ما لدى اللبنانيين، وهي مسألة تستحق الدراسة. إذ يشجع أداء المؤسسات المعنية على الإجرام بل وكثيراً ما يبلغ حد تأمين غطاء للمجرمين.في لبنان ثلاث مؤسسات يفترض بها أن تحرص على إحقاق الحق وتحقيق العدالة وملاحقة المجرمين. إلا أنها طُوّعت لخدمة المنظومة، ويتهمها اللبنانيون باختلاف انتماءاتهم بأنها لا تقوى إلا على المستضعفين. بل وتعمل هذه الأدوات باستنسابية كأدوات انتقام وتصفية حسابات سياسية أو لتحقيق مصالح شخصية.

وفي الأيام الماضية قيل الكثير علناً وبشكل فجّ عن تسييس القضاء وفساده. وعلت مجدداً الأصوات المطالبة بإقرار قانون يضمن استقلالية القضاء. وأكدت النقاشات والسجالات التي فتحتها القاضية غادة عون، مدعي عام جبل لبنان، نظرة المواطنين إلى قضاتهم. حيث أجمع هؤلاء على أن لا قضاء عادلاً في لبنان وأنه كما كل شيء مسيس. وهو ما قد يحمل ظلماً بحق قضاة ربما يكافحون في سبيل استقلاليتهم، وبعضهم دفع سابقاً ثمن قرارات تعد جريئة.

وكما ان القضاء مسيس كذلك تلعب القوانين التي تعكس صورة المشرّع دوراً في إحباط العدالة. فقد غدت مصلحة القوى السياسية التي تهيمن على مجلس النواب معياراً للتشريع، بدل أن تعتمد المصلحة العامة كمعيار. وبذلك باتت القوانين أيضاً من إحدى أدوات تعزيز اللاعدالة، وباتت تسلط على رقاب المواطنين غير المحظيين بينما يتحايل عليها المحظيون.

أما المؤسسات الأمنية، فحدّث ولا حرج، حتى أن انتهاكها للقوانين ولحقوق الإنسان قد وُثّق في مرات عدة. كما أصدرت منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان العديد من التقارير التي تحدثت عن انتهاكات خطيرة وانتقدت أداء هذه المؤسسات، وطالبت الدولة اللبناني بمحاسبتها وتحمل مسؤولياتها. ومن بين هذه المؤسسات قوى الأمن الداخلي العرضة لانتقادات المواطنين. وفيما تحاول هذه المؤسسة دوماً تبييض صورتها،عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تواجه محاولاتها بسخرية من مجموعات من الناشطين الذين يواجهون بطشها وهراواتها لدى المطالبة بحقوقهم.

تشكل الآليات الحالية المعتمدة في التشكيلات والمناقلات القضائية تدخلاً سياسياً فاضحاً ومباشراً في عمل القضاء. كما تشكل وسيلة ضغط وابتزاز للقضاة من قبل الأحزاب والقوى السياسية. فعلى التشكيلات القضائية أن تمر في مجلس الوزراء، حيث تتم بمرسوم بناءً على اقتراح وزير العدل وبعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، ومن ثم يوقع عليها رئيس الجمهورية وله أن يردها. ويستوجب إقرار القانون الحصول على تواقيع وزير العدل مجدداً، رئيس الجمهورية، رئيس مجلس الوزراء، وزير المالية، وزير الدفاع الوطني. أي أن القانون منح هؤلاء إمكانية تعطيل التعيينات لأسباب تتّصل بمصالح القوى السياسيّة التي ينتمون إليها بل وحتى مصالحهم الخاصة. وهكذا تصبح ترقية القضاة وتعيينهم في المناصب العليا والحساسة رهناً برضى القوى السياسية التي يتعين عليها النظر في قضايا فسادها!

في حديثه إلى “نداء الوطن” يؤكد عقيص أن المشكلة المرتبطة بالقانون ستتم معالجتها في حال تم إقرار قانون استقلال القضاء في الهيئة العامة لمجلس النواب، “إذ يضمن الحد الأدنى من استقلالية القضاء”. لكن عقيص يلفت إلى مشكلة تكمن في نفوس القضاة بالإضافة إلى المشكلة الكامنة في النصوص، ويشير إلى نية القضاة ومناعتهم. ويروي أنه وقبل الحرب (1975) وفي خلالها، وعلى الرغم من عدم وجود نص قانوني كان حال القضاء أفضل منه اليوم. “كان هناك قضاة شجعان على الرغم من سطوة الميليشيات، واستطاع القضاء أن يحافظ إلى حد كبير على مناعته. اليوم بات القضاء غب الطلب، ينفذ القضاة الأجندة السياسية من دون حرج. لقد حصل التراجع على صعيدين: القضاة والشخصيات السياسية”.

بالعودة إلى مشروع القانون، ففي حال أقر قانون استقلال القضاء من دون تعديل يمس بجوهره، ستتغير الآلية المعتمدة في التشكيلات والمناقلات القضائية. ووفق عقيص ستصبح المناقلات شأناً قضائياً وستجرى وفق معايير علمية. ويضيف أن مشروع القانون بصيغته الحالية ينص على عدم جواز نقل القاضي إلا برغبته وبعد درس ملفه من الجسم القضائي. ويرى في إقرار القانون الخطوة الأولى نحو الغاية المنشودة.

عقيص يناشد عبود

ويتخوف القاضي السابق من نجاح ما يعتبره محاولات لإزاحة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود عن منصبه. ويعبر عن خشيته من أن ييأس عبود ويستقيل بسبب إعاقة محاولاته الإصلاحية التي بدأها بإعداد تشكيلات قضائية غير مسيسة. “أناشده الاستمرار بالصمود على رأس هذه المؤسسة، فهناك جهات متربصة تريد إزاحته. يعتقدون أنهم بالضغط عليه سيكسبون الشرعية التي يملكها وسيفرضون عليه تشكيلات لا تشبهه بعد أن أوقفوا مشروعه الإصلاحي بهدف الإبقاء على تشكيلات العام 2017 التي تفوح منها رائحة الزبائنية السياسية”، يقول عقيص.

وفي حين يجاهر قضاة بأنهم يمتلكون سلطة استنسابية في فتح الملفات واختيار القضايا التي يرغبون بالتحقيق فيها، يؤكد عقيص أن القاضي مجبر على متابعة كل الشكاوى التي تصله والمضي بالتحقيق فيها حتى النهاية “تحت طائلة استنكافه عن احقاق الحق”. ويؤكد على وجوب إزاحة القاضي الذي يتصرف باستنسابية.

أما عن “حرب الملفات” بين القضاة وسحبها لاعتبارات سياسية، فيصفه عقيص بالمظهر الغريب. ويرى أن المشكلة الأكبر اليوم “في حالات التمرد على الهرمية القضائية ونسفها”. وينبّه من خطورة اخضاع قرارات مجلس القضاء الأعلى المتعلقة بإدارة شؤون القضاة لمجلس شورى الدولة، “وهو ما لم يحصل سابقاً في لبنان أو أي من الدول الديموقراطية”. ويناشد النائب مجلس شورى الدولة التنبه لمغبة سلوك طرق “غريبة عن الأصول القضائية” بعد الطعن الذي قدمته أمامه القاضية غادة عون.

وفيما نشهد صراعات “سحب ملفات” تتوافق ومصالح الجهات السياسية التي يتبع لها كل قاضٍ، يقول النائب إنه ليس في القضاء ممارسة اسمها “سحب ملفات” بل هناك هرمية نظراً لخطورة مهام القضاة على المجتمع وحرية الناس. لكنه يؤكد رفض السحب الانتقائي للملفات.

وبعيداً من سوء نية بعض القضاة، ففي أحيان كثيرة تشكل كثرة الملفات وعدم تخصص القضاة عائقاً أمام تحقيق العدالة. فتصدر الإشارات والأحكام من دون إطلاع كاف أو فهم صحيح للقضايا المطروحة أمام القضاة.

القوى الأمنية تتحكم بمسار الدعاوى

الخطير في القضايا المستعجلة التي تمس أرواح الناس وأمنهم أن القاضي عادة ما يتخذ قراره السريع بناء على الرواية التي ينقلها إليه المحقق في القوى الأمنية. وفيما تعاني الأجهزة الأمنية، وتحديداً قوى الأمن الداخلي، ما تعانيه من فساد، ففي إمكان المحقق التلاعب بالتحقيقات والتأثير على قرار القاضي عبر نقل الصورة مشوهة إليه وعدم اطلاعه على كافة المعلومات. وبذلك قد يستنجد شخص مهدد بالقتل بالقوى الأمنية لتتآمر عليه وتصبح شريكاً في تعريض حياته للخطر. كما قد تمنح المماطلة في النظر في الدعاوى وعدم تأمين الحماية للمدعي، المجرمَ الوقت الكافي لتنفيذ جريمته.

وتؤكد المحامية ماريانا برو أن المحامي العام والنيابات العامة تتخذ قراراتها بناءً على رواية قوى الأمن “ما يعني أنها هي سلطة مقررة طالما أن القاضي يتخذ قراره بناءً على الاتصال معها لا على الملف الموجود أمامه”. بدوره يؤكد عقيص وجود هذه المشكلة، ويضيف أنه حاول مع النائب زياد حواط حلّها. “وضعنا قانوناً ينص على وجوب أن تكون التحقيقات مصورة ومسجلة. لكن مع الأسف لم ينفذ بحجج واهية، يتذرعون بعدم توافر الأموال اللازمة علماً أنه غير مكلف على الخزينة لو توافرت النية بحماية حقوق الإنسان”.

وفي أحيان عدة يبلغ الأمر حد قيام عناصر أمنية بفبركة ملفات وخداع القاضي بهدف قبض الرشى أو لتنفيذ أوامر جهات سياسية تهيمن على مخافرها. بدورها، تؤكد برو وجود فساد وفبركة ملفات، وكدليل على ذلك تؤكد أن موقوفين كثر تتم تبرئتهم في ما بعد. لكنها تلفت إلى أن تطبيق المادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية حد من صلاحيات العناصر الأمنية، “حيث لم يعد بإمكان هؤلاء التلاعب بالتحقيقات كما في السابق”. كما يلعب عناصر القوى الأمنية دوراً في “تنييم” شكاوى تصلهم بعد أن يتقدم بها أصحابها أمام النيابة العامة. فلا يتم فتح محاضر تحقيق وتبقى الشكاوى في الأدراج حتى ينساها صاحبها، خصوصاً إن كان عاجزاً عن توكيل محام لمتابعتها أو رشوة العناصر لتحريكها. وهنا يلعب العامل المادي دوراً كبيراً في إعاقة العدالة. إذ على من لا يملك المال أن ينسى حقه وألا ينتظر العدالة من دولة انهارت مؤسساتها.