ليس من السهل على اي مراقب ان يحكم على زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان الى بيروت سلبا ام ايجابا، كما بالنسبة الى ما انتهت اليه. ففي عقل الرجل استراتيجية متكاملة وقد شكلت زيارة بيروت محطة من محطاتها وان هناك خطوات اخرى متتالية سيبدأ بها على اكثر من مستوى.
من هذه المنطلقات، كشفت مصادر ديبلوماسية غربية واكبت زيارة لودريان لـ “المركزية” ان المسؤول الفرنسي سيواصل مساعيه واتصالاته على مستوى الاتحاد الأوروبي اولا ومجلس الأمن الدولي تاليا. فاجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يعقد في اليومين المقبلين قبل ان ترأس بلاده مطلع الشهر المقبل رئاسة مجلس الأمن الدولي وهي محطات سيكون الملف اللبناني واحدا من القضايا الدولية التي وضعتها فرنسا على سلم اولوياتها.
قبل زيارته الى بيروت ناقش لودريان ما يمكن ان يقوم به في محطته اللبنانية مع مجموعة الاصدقاء الاوروبيين وبعض المسؤولين العرب الذين كانوا في الأشهر القليلة الماضية على تواصل منتظم مع العاصمة الفرنسية قبل ان تكون على جدول أعماله في اجتماع نظرائه من “مجموعة الدول السبع” الذين التقوا في لندن قبل يوم من موعد زيارته الى بيروت. وإن كان اللقاء الذي جمعه مع نظيره الاميركي انتوني بلينكن قد انتهى الى تبلغه دعما اميركيا، فهو استعرض عناوين زيارته مع نظرائه البريطاني والالماني والايطالي وحظي بدعم وتضامن كان ينتظره من دون ان يبني عليه الكثير من الرهانات.
والسبب كما تقول المصادر الديبلوماسية ان انشغال الفرنسيين بالملف اللبناني ابقاهم في صدارة المهتمين بتفاصيل الازمة اللبنانية. فمعظم الدول الكبرى ولا سيما مجموعة الدول المنتظمة تحت عنوان أصدقاء لبنان منشغلة باهتمامات داخلية عززت من اتكالهم على المبادرة الفرنسية لافتقادها الى الكثير من المعطيات التي تمتلكها باريس منذ ان أطلق رئيسها ايمانويل ماكرون مبادرته في 2 ايلول الماضي.
وقد كان واضحا حتى الامس القريب، ان المجتمع الدولي لم يخذل ماكرون اكثر من مرة، وهو ما ترجم في مؤتمرين نظمتهما باريس، الأول عقد في أعقاب انفجار المرفأ وخصص للبنان مجموعة من المساعدات العينية والمالية الفورية، قبل ان يعقد المؤتمر الثاني مطلع كانون الأول الماضي وانتهى الى مساعدات تجاوزت 225 مليون دولار بشكل عاجل خصصت لمواجهة آثار نكبة بيروت وتداعيات الكورونا. ولما لم يلتزم اللبنانيون بخريطة الطريق الفرنسية ارجىء المؤتمر الكبير الذي كان مقررا مطلع العام الجاري بالتزامن مع اقلاع المفاوضات التي يجب ان تسبق اي حراك من هذا النوع مع صندوق النقد الدولي ليعطي مسؤولوه إشارة استعادة ثقة المجتمع الدولي بالحكومة اللبنانية التي انتظرها العالم منذ ثمانية أشهر ولم تولد بعد.
ثمة من يعتقد بأن لودريان، وبعدما القى النظرة الاخيرة على المواقف اللبنانية، تأكد ان شيئا لم يتغير بعد بالسرعة التي يرغب بها ولم تتجاوب القوى المؤثرة مع رغباته الفورية، ولذلك قد ينتقل تلقائيا الى المرحلة التالية والتي تقضي بالمزيد من الإجراءات العقابية. وهو ما ستركز عليه الديبلوماسية الفرنسية بالتعاون مع أكثر من طرف تتقدمهم العاصمة البريطانية من خارج دول الاتحاد الأوروبي وواشنطن من اجل ممارسة المزيد من الضغوط على المسؤولين اللبنانيين المتخاذلين الى درجة رفض فيها البعض اعطاء زيارته الاخيرة ما تستحقه من اهمية، ورهان المعاندين انه لا يمكنه القيام بأي خطوة تساوي حجم العقوبات الاميركية التي جمدت في أعقاب تجميد تعديل المرسوم 6433 الخاص بتعديل الحدود البحرية للبنان مع إسرائيل بانتظار تسييل التعهدات الجديدة للإدارة الاميركية وهو ما يقلل من اهمية العقوبات الفرنسية.
على اي حال، فان لودريان بات على يقين ان اللبنانيين لن يلتزموا بالمبادرة الفرنسية فاشتراط رئيس الجمهورية ميشال عون الحصول على ثقة الكتل النيابية للحكومة العتيدة يعطل امكان ولادة حكومة حيادية ومستقلة. كما ان شروط رئيس مجلس النواب نبيه بري بتمسكه بوزارة المالية وعدم قدرته على مساندة حليفه المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري ادى بطريقة واضحة الى استحالة ولادة “حكومة المهمة”.
وبناء على ما تقدم لا بد للورديان من ان يشحذ الهمة في الايام المقبلة لإطلاق برامج العقوبات سواء انطلقت على المستوى الفرنسي او عبر اي مجموعة دولية أخرى فإنه لن يحقق ما يريده ما لم تنتظم المجموعة الدولية في إطارها صفا واحدا ليستشعر المسؤولون اللبنانيون بخطورتها وإلا ستذهب جهوده هدرا. فبعض القوى المتهمة بالفساد وعرقلة تشكيل الحكومة تمتلك مفاتيح الحل ولم تقدم بعد على الخطوة وهو ما ينبىء بأن الحلول في لبنان لن تأتي على البارد.
وعليه، لربما إن تفاقمت الازمة المعيشية وافتقدت الكهرباء والمحروقات وسلع حيوية كثيرة وارتفع منسوب الغلاء الى ما لم يتوقعه احد، سيقود حتما الى انتفاضة شعبية كبيرة يمكن ان تطيح بالطاقم السياسي إن لم يسرع الى تشكيل الحكومة على وقع الانهيار الكبير وهو ما يرفع من نسبة التحدي امام اركان السلطة، اذا لم يتوفر لها الدعم الدولي ان لم تتجاوب مع ما هو مطلوب. وفي حال العكس سيكون رافعة للحكومة الجديدة ولكن كيف يمكن ان يتم ذلك؟ ومتى؟ وكيف؟ الجواب رهن التطورات المقبلة وما يتمناه العارفون ألا تكون كارثية؟!