لم يكن في جعبة الدبلوماسي الفرنسي، الأول في حكومة ماكرون جان إيف لودريان، ما يؤشر لغير عاصفة آتية على لبنان، الأمر الذي من شأنه أن يزيد الموقف الداخلي المفجع تعقيداً.
بهذا المعنى، ليست زيارة وزير الخارجية الفرنسي لودريان، هي نقطة الفصل، في رؤية المسار الانحداري لوضعية السلطة والمال والمجتمع في لبنان.. بل هي عنصر من عناصر تشكّل أرضية انقلابات مقبلة، بالتوازي مع انخسافات جديدة في المشهد الإقليمي، تغلب وضعاً مضى على وضع مستجد، وتعيد بناء المعطيات الجيوبوليتكية والجيوإقتصادية، وحتى الجيودينية والإثنية من جديد، بالإستناد إلى صعود القطبية الروسية والصينية المتمثلة بروسيا الاتحادية (وريثة الاتحاد السوفياتي القوة الأعظم سابقاً) والصين الشعبية، النمر الآسيوي، ذي العرق الأصفر، الذي يهيمن بصعوده على منظومة دول المياه من المحيطين الهندي والهادئ إلى بحر العرب، والخليج الفارسي أو العربي (ولكن ليس الإسلامي).
وبالإستناد أيضاً إلى ثبات القوى الإقليمية غير العربية، مثل إيران الجمهورية الإسلامية، التي أعادتها مفاوضات فيينا حول الملف النووي إلى الساحة الدولية، من موقع الشراكة، وليس من موقع المواجهة، كما هي الحال كانت مع إدارة دونالد ترامب.. وسط طموح معلن لدى إدارة جو بايدن إلى فتح باب التفاوض مع طهران من أجل الحد من التوسع الإقليمي والصواريخ البالستية، مما يفسح في المجال، من وجهة نظر خبراء لدى الإدارة الأميركية الجديدة بكبح جماح المجموعات التي تدعمها إيران بالمال والسلاح والتدريب، من أجل إعادة بناء نظام إقليمي أكثر استقراراً، تتمكن من خلاله الدبلوماسية الأميركية، التي أعلن أنها الخيار لتسوية النزاعات من الإمساك بمفاصل الوضع الإقليمي من بواباته العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية..
من الخطأ النظر إلى الهاوية التي يقف أمامها لبنان الآن، بمعزل عن حافة الهاوية التي يقف امامها الشرق الأوسط، والآن أيضاً، ومن زاوية الخيارات الدولية، تجاه الأزمات العالمية، وفي قلبها أزمات الشرق الأوسط، بكل أبعادها الاثنية والدينية، والمصالح الحيوية أيضاً، والتنافس على حلبة تنافسات الكبار، وتوفير الأمن، في هذا الخضم الهائل، لكل بلد، هابط أو صاعد من بلدان المنطقة العالية التوتر..
من هذه الزاوية يمكن النظر إلى مجيء لودريان، ليس لإنقاذ المبادرة، بل لاستطلاع مسار الهبوط إلى الهاوية، وما يترتب عليه، لجهة الإجهاز على «دور ما» ولو متواضع للبلد الاستعماري الأوروبي، الشريك في اتفاقية سايكس- بيكو، والذي على أرضه، وعلى لسان الجنرال الحربي غورو، أعلنت ولادة لبنان الكبير في 1 أيلول عام 1920.
على أن الأخطر، في ميدان التداعيات الإقليمية، ليس فقط انتفاضة المقدسيين في رمضان بوجه محاولات التهويد الجارية، مع فلول إدارة بنيامين نتياهو، بل المخاوف من حماقة إسرائيلية جديدة معادية، مع إعلان المناورات السبعية (7 أيام) التي بدأتها إسرائيل أمس، وتحاكي حرباً على الجبهات كلها، من الجنوب والشمال (لبنان- الجولان- غزة) وربما الضفة الغربية، امتداداً إلى دول أخرى في الإقليم، في مبارزة بالغة الخطورة بين سلاح الجو الإسرائيلي المتفوق، والصواريخ الدقيقة التي يمتلكها حزب الله و«الجهاد الاسلامي» و«حماس»، وفصائل أخرى، والتي من شأنها ان ترعب «العدو»، وتحوُّل بحره ومدنه ومناطقه، إلى أرض غير صالحة للسكن والحياة..
بمعزل عن مبررات مواجهة من هذا النوع، إلَّا ان التمهيد لمفاوضات طويلة، على كل مسارات التأزم، في النقاط الساخنة والباردة، قد تحتاج إلى «عمل تحريكي» من هذا النوع، مع أن التقارير الدبلوماسية من موسكو وباريس، وحتى من الولايات المتحدة، تستبعد اللجوء إلى خيارات الحرب، سواء أكانت، محدودة أم اختبارية أم أي شيء، من هذا القبيل..
ليس أمراً عادياً، ان يكشف الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله، في كلمة له لمناسبة يوم «القدس العالمي» ان إسرائيل ستنفذ بدءاً من أمس الأحد لمناورة، تحاكي حرباً كبرى على الجبهات كافة، لا سيما الكم الهائل من الصواريخ التي ستطلقها المقاومة من لبنان وسوريا واليمن والعراق، وفلسطين وقطاع غزة..
وليس أمراً عادياً، ان يصارح السيّد نصر الله حزبه، وجمهور المقاومة، والحلفاء، واللبنانيين عموماً، بعدم الذعر أو الخوف، ويكشف في الوقت نفسه ان الحزب سيتخذ الإجراءات الموازية، طوال أيام المناورة، لردع ما اسماه نصر الله، إسرائيل عن «الخطأ» أو «التجاوز»..
ووفقاً لمعلومات، بعض المصادر، فإن الحزب، لجأ إلى إجراءات غير مبسوقة، منذ حرب تموز 2006، فهو استدعى المئات، ورفع مستوى الجهوزية في الجنوب والقنيطرة، وبلغت الجهوزية مستوى عالياً، مع استدعاء وحجز عناصر النخبة في «المقاومة الاسلامية»..
هكذا، يبلغ الإنتظار المريب أوجَهُ (القمة)، بين تآكل داخلي، يزيد من الضغوطات على المواطن، الذي يفقد مع كل اشراقة شمس، وربما قبل الغروب أيضاً، فرصة من الفرص المتاحة لمواجهة الجائحة المالية- السياسية الحاكمة على مستوى القرار، وعلى مستوى السوق، وعلى مستوى كل أوجه الحياة، المتبدلة من الرفاه النسبي إلى الفقر المدقع، وحذر خارجي، من حسابات مجهولة، قد تدفع الوضع الإقليمي إلى «انفجار واسع» لإسقاط مفاوضات النووي الإيراني، وتعديل أجندة إدارة بايدن، وخروج إسرائيل من أسوأ أزماتها السياسية، وانقساماتها، والعجز عن تأليف حكومة، فضلاً عن تنامي القوة المناوئة، في ما يُطلق عليه «المحور الايراني» و«الجهات الدائرة في فلكه من دول وتنظيمات مسلحة»..
بين التآكل والحوار، و«نتعات» رأس الدبلوماسية الفرنسية، الذي تواجه بلاده ضموراً في المشهد الدولي، تتحدث المصادر السياسية اللبنانية عن محاولات تجري (لم يشأ السيّد نصر الله الخوض فيها لغير سبب وموجب) عن اتصالات لإعادة تدوير الزوايا، لكن الشرط الأساسي هو وقف لعبة «الهيجان الاعلامي» عند كل مناسبة «حرزانة» أم لا. وتبادل الهجوم بأقسى العبارات، وإعادة شحن النفوس، والتعبئة باتجاه اللاحل..
ثمة نقطة بدء غير واضحة بعد.. كيف يمكن إعادة وصل ما انقطع بين بعبدا وبيت الوسط؟
حسب المصادر المعنية، الأمر سهل، إذا ما تمكنت «كاسحة الألغام» (لا أحد يعرف بعد طبيعتها أو هويتها) من تذليل عقبة الوزارتين المتبقيتين، وهما الداخلية ووزارة العدل، للعودة إلى مسار تعديل التأليف، إمَّا بتنقيح النسخة الموجودة لدى دوائر بعبدا، أو استرجاعها، وإعادة تقديم نسخة متفق عليها، تضم 24 وزيراً.. من دون نصف زائد واحد للرئيس المكلف سعد الحريري أو الثلث المعطل لفريق بعبدا- ميرنا شالوحي (القصر الجمهوري- مقر التيار الوطني الحر).
لا يريد الرئيس نبيه برّي «المجازفة» مجدداً، والدفع من رصيده، بلا جدوى، ولا يريد النائب السابق وليد جنبلاط توتير العلاقة مجدداً مع بيت الوسط، فالتزم الصمت، ولا يريد النائب السابق سليمان فرنجية توفير مكاسب مسيحية للنائب الحالي جبران باسيل، المنهك على ساحة بيئته، بعدما بدا للمجتمعين المحلي والدولي انه رأس العرقلة في تأليف الحكومة..
فرصة الحكومة لم تسقط.. فهي حبل النجاة للطبقة السياسية، التي تعيش أيامها أو أشهرها الأخيرة، كما هي حبل النجاة للطبقة المالية، التي تحاول ان تتنصل من الوضع الذي اوصلت إليه سياساتها المالية، وجشعها، ورغبتها بجني المال الوفير، بأي طريقة مشروعة أو غير مشروعة..
ومع هذا المشهد الملبد، كل الأبواب، ما تزال مفتوحة، فلا أحد يوصد الأبواب إلَّا في حال الثورة أو «الهيجان الأخير» أو «الإنقلاب الأبيض»، أو انتخابات ثورية، تدفن الماضي، وتؤسس لوضع جديد..
على أن الأهم، أن فترة الترقب مستمرة، ومعها مشهد الهريان العام.. بانتظار الحدث – التحوُّل!