على غير هدى يسير المركب اللبناني بعدما فقد أهل الحكم السيطرة على دفة قيادته، تاركين الناس أسرى مافيا المضاربات والاحتكار والتهريب، حيث بدأت تسود شريعة النهب المنظم للاحتياطي الإلزامي وتحكم الأسواق السوداء بتسعير السلع، على وقع تسارع العد العكسي لرفع الدعم عن المواد الحيوية في البلاد.
ومع تزايد المؤشرات الداخلية والتقارير الدولية الدالة إلى اتجاه اللبنانيين نحو انفجار اجتماعي كبير بعد انتهاء شهر رمضان، ربطاً ببدء فقدان السلع المدعومة من الأسواق وتوقف تقديم طلبات الدعم من قبل الشركات المستوردة، بدأ الهلع يتملك المواطنين عند أعتاب الصيدليات ومتاجر الدواجن واللحوم ومحطات الوقود، وسط تأكيد مصادر معنية على أنّ “مرحلة ترشيد الدعم انطلقت وأولى ضحاياها ستكون السلة الغذائية التي “طارت” كلياً من الأسواق، على أن يستمر الدعم “بالقطّارة” في المرحلة المقبلة ليقتصر على بعض المواد الحياتية الحيوية لاستمرار دورة حياة الناس”.
وفي هذا السياق، أكدت مصادر معنية بملف الدعم لـ”نداء الوطن” أنّ “رفع الدعم عن مادة القمح أو الطحين المخصص لصناعة الخبز لن يتمّ نهاية الشهر وبالتالي فإنّ سعر رغيف الخبز لن يرتفع كنتيجة مباشرة لترشيد الدعم”، لكنها استدركت بالقول: “إذا ارتفع سعر طن القمح الذي يبلغ حالياً نحو 282 دولاراً واذا ارتفع سعر صرف الدولار فإنّ تسعيرة هذه المواد ستتأثر حكماً، خصوصاً وأن ارتفاع سعر الدولار سيشمل ضمناً أكياس النايلون في صناعة الرغيف”. أما بالنسبة إلى المحروقات، وهي المادة الأهم التي لها تأثير على كل المكونات الصناعية بسبب استخدام مادة المازوت في الصناعات المحلية، فإن رفع الدعم لن يحصل بشكل نهائي عنها إنما “سيتمّ تخفيضه لحدوده الدنيا بموازاة إعطاء بطاقة تمويلية للمحتاجين لتخفيض الآثار السلبية الناجمة عن ذلك”، كما أفادت مصادر وزارة الطاقة “نداء الوطن”، مشيرةً في الوقت نفسه إلى أنّ الوزارة تسعى لتأمين أكبر نسبة دعم ممكنة للرغيف من مصرف لبنان بغية السيطرة على مستوى سعر ربطة الخبز.
وبينما لم تقدم وزارة الطاقة اقتراحاً حول نسبة الدعم التي يجب خفضها بين 15 و 50%، أكّدت مصادر “الطاقة” أنّ “المعنيين بشأن رفع الدعم، وفي مقدمهم رئاسة الحكومة، لم يحسموا أمرهم لغاية الآن ولا يزال البحث متمحوراً حول عدد من الأبحاث والدراسات، من دون اتخاذ أي قرار نهائي بعد”.
وبالنسبة الى الأدوية، فبات من المعلوم أن “السرطانية” منها لن يرفع الدعم عنها، رغم أنّ القيمين على الملف يعلمون أنها تُهرّب إلى خارج لبنان، وقد أكّد وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن أمس أنّ “رفع الدعم عن الدواء والمستلزمات الطبية خط أحمر لن تقبل به الوزارة”.
وفي ما يتصل بالسلّة الغذائية، جزمت المصادر المتابعة للملف بأنّ “الدعم سيرفع حتماً عنها”، وفي تلك الحالة سترتفع أسعار المواد الغذائية بنسبة نحو 40% كون الدعم في السّلة الغذائية كان يتمّ وفق سعر صرف بقيمة 3900 ليرة للدولار الواحد، وليس 1500 ليرة على غرار المواد الأساسية. وهو ما يشمل ارتفاعاً في أسعار الخضار والدجاج واللحوم والحليب التي شهدت ارتفاعاً قياسياً كبيراً في الأيام الأخيرة، إذ وصل سعر الفروج على سبيل المثال إلى 50 ألف ليرة ومن المتوقع أن يتخطّى الـ100 ألف، وهو السعر نفسه الذي بلغه كيلوغرام لحوم البقر أمس.
وكان بعض الوزارات، ولا سيما وزارة الإقتصاد، قد تبلغ كتاباً من مصرف لبنان يفيد بوقف قبول طلبات الدعم بالآلية الموجودة حالياً، وهو ما أكده حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في بيان أمس لناحية إشارته إلى أنّ “المصرف المركزي وجّه كتباً إلى الوزارات المعنية من أجل ترشيد الدعم، وينتظر الأجوبة الواقعية التي يمكن تنفيذها قانوناً”.
ومساءً، أقدم “المركزي” على خطوة مباغتة بإعلانه إطلاق مفاوضات مع المصارف اللبنانية “بهدف اعتماد آلية تبدأ بموجبها المصارف بتسديد تدريجي للودائع التي كانت قائمة قبل 17 تشرين الأول 2019 وكما أصبحت في 31 آذار 2021، وذلك بالعملات كافة، ولهذه الغاية طلب مصرف لبنان من المصارف تزويده بالمعطيات ليبني عليها خطة يتم بموجبها دفع مبالغ تصل إلى 25 ألف دولار أميركي، (سيتم تسديدها للمودعين) بالدولار الأميركي أو أي عملة أجنبية، إضافة إلى ما يساويها بالليرة اللبنانية”، موضحاً أنه “سيتم تقسيط هذه المبالغ على فترة زمنية يُحدّدها مصرف لبنان قريباً، ومن المتوقّع أن يبدأ الدفع اعتباراً من 30 حزيران 2021 شرط الحصول على التغطية القانونية”.
ورأت أوساط مالية في خطوة المصرف المركزي “هجمة مرتدة على الطبقة السياسية التي تضغط باتجاه صرف المزيد من أموال الاحتياطي الإلزامي لتمويل عمليات الدعم العشوائي”، موضحةً أنّ “هذه الأموال تُصرف أساساً من حسابات المودعين، وبالتالي فمن الأجدى سدادها لهم باعتبارهم أحقّ بها”.
ومن جهة ثانية، اعتبرت الأوساط المالية أنّ حاكم المصرف المركزي يسعى من خلال خطوته هذه إلى “احتواء حالة التضخم المفرط (Hyperinflation) المقبلة على البلاد بسبب رفع الدعم، وعليه فإنّ مصرف لبنان وجد نفسه مضطراً إلى رفع مستوى تحرير الودائع، منعاً لاضطراره إلى اللجوء لمزيد من طباعة العملة وزيادة حجم التضخم في السوق النقدي”.