لم يكن ممكناً لأيّ مخيّلةٍ شريرةٍ أو متوحّشةٍ أو مجنونةٍ تَوَقُّع ما يحلّ بالبلاد التي كانت يوماً «زهرة الشرق» وتَباهَتْ طويلاً بأنها صدّرتْ الحرفَ ووضعتْ الأحرفَ الأولى من شرْعة حقوق الإنسان.
عبارةٌ واحدة تختزل فائضَ المآسي التي يعيشها اللبنانيون، وتختصر الفواجعَ التي تقضّ مضجعهم، وتعكس حجمَ الكوابيس التي لم يألفوها حتى في عزّ الحروب والاجتياحات والأزمات التي لم تَنَلْ من كبريائهم وحبّهم للحياة.
… «ما في حليب أطفال»! عبارةٌ مغمّسة بالحسرة والبؤس والشقاء والوجع، وكأن اللبناني صار وجهاً لوجه مع «آخِر الدني» وهو يستغيث على وسائل التواصل الاجتماعي للعثور على علبة حليبٍ لأطفاله الذين بات يتهددهم سوء التغذية ويُخشى أن تطاردهم تلك اللعنة التي أصابت «اخوةً» لهم، بالأمس واليوم وربما غداً، أصبحت صورُهم المُفجعة في أكثر من بلدٍ عنواناً لأزماتٍ قاتلةٍ لـ… الانسانية.
أزمةٌ تتخطى بمعانيها الإنسانية كل ما يواجهه شعب لبنان من «عواصف» لأنها تصيب منه الموقع الأشدّ ألماً وحساسية، تصيب أطفاله بقوتهم اليومي وسبيلهم الى النمو بصحة سليمة.
فقدان حليب الأطفال من الصيدليات والأسواق أو صعوبة إيجاده على أفضل تقدير، عنوانٌ يتصدّر منذ أشهر الواجهة في لبنان، وسط استفحال هذه الأزمة التي تتخذ جذوراً لها على أكثر من صعيد وتتوزّع بين مستوردي الأدوية والتجار وبين الصيدليات والمتاجر والسوبرماركت وبين الأهل الخائفين والسياسيين المهوّلين بصعوبة الآتي من الأيام.
صرخات الأمهات
الأمهات خائفات، وخوفهن مفهوم ومبرَّر. فتأمين الحليب لصغارهن أولوية ولو على حساب أي شيء آخَر. وهنّ ولا يجدن سوءاً في التنقل بين صيدلية وأخرى، ولو في طول البلاد وعرْضها، للبحث عن عبوة حليب للرضع أو حتى الانتظار صفوفاً في السوبرماركت ليحظين بكيس حليب قد لا يكون البديل الأفضل لكنه المتوافر حالياً.
يحاولن إيجاد حلول وبدائل ولو لا ينصح بها الأطباء. تصرخ ساندرا وهي أم لطفل رضيع وآخَر لم يتجاوز السنتين، سائلة: «ماذا أُطْعِم أطفالي؟ هل أعود الى زمن أمي وجدتي والى الرضاعة الطبيعية حتى عمر السنتين وأكثر؟ أيمكن ان تكون الحال هكذا ونحن في 2021؟ المشكلة ليست في الحليب بل أنني أتيتُ بأطفالٍ الى العالم في بلدٍ منهار غير قادر على تأمين أدنى مقومات الحياة لهم».
وتضيف: «طبيب الأطفال حذّرني من إعطائهم أصناف حليب غير معروفة لا تتمتع بالتركيبة الصحية والغذائية المطلوبة التي يجب أن تتوافر في الحليب لتناسب عمرهم واحتياجاتهم، وحذّرني من ضررها على نموهم ونصحني بألا أعطيهم حليباً حيوانياً غير معقّم قد يحوي جراثيم وطفيليات ونسباً عالية من البروتينات والدهون المضرة بمعدة الطفل الحساسة.
ما الحل إذاً؟ هل أغامر بصحتهم ونموهم وأرتكب خطئية بحقهم؟ أم أجعل شغلي الشاغل التنقل بين الصيدليات والمتاجر؟».
مثل ساندرا تصرخ عبير التي حظيت بكيس حليب أمنّه لها أحد الأصدقاء وشعرت معه كأنها فازت بجائزة اليانصيب الكبرى وتقول: «هل بات هذا مصير أطفالنا؟ أن ننتظر مَن(يسرق) لنا من جشع التجار كيس حليب مجهول الاسم لإطعام صغارنا، نحن الذين كنا نفاخر بأننا لا نعطيهم إلا المنتجات الصحية الأرفع مستوى؟ حتى الحليب السائل الذي لا يناسب الأطفال اختفى من الأسواق وباتت أسعاره(تحلق).
أين البديل ؟ ماذا نُطْعِم أطفالنا؟».
صرخات مؤلمة بلا شك، ولكن هل وصلت الى أسماع المسؤولين؟
لفهم الموضوع كان لابد أولاً من التوجه الى نقيب مستوري الأدوية كريم جبارة لنقف منه على لبّ المشكلة وأسبابها والإضاءة على تفاصيلها.
وفي حديثه إلى «الراي» شرح جبارة أنه «يجب الفصل بين حليب الأطفال الرضع ما دون السنة الذي لا تزال أسعاره كالدواء مدعومةً من مصرف لبنان ويباع بسعر صرف الدولار الرسمي أي 1500 ليرة ولا يتخطى سعر العبوة منه 12000 ليرة وهو سعر معقول وفي متناول الجميع ولم يشهد أي زيادة، فيما حليب الأطفال لفوق السنة يُعتبر سلعة عادية غير مدعومة وسعرها محرَّر ويمكن بيعها خارج الصيدليات».
مسؤولية ضائعة
ويقول النقيب: «قابلْنا وزير الصحة في شأن موضوع حليب الرضع ونقصه في الأسواق، وقدّمنا له بيانات مبيعات الفصل الأول من هذه السنة في مقابل الفصل الأول من العام الماضي وكذلك بيانات الاستيراد لأربع شركات تمثل 70 في المئة من السوق، فتَبَيَّنَ بالأرقام أن الكميات التي سُلّمت للصيدليات هذه السنة تفوق بـ 20 الى 40 في المئة ما سُلم العام الماضي أي ثمة زيادة ملحوظة في استهلاك الصيدليات. ونحن كمستوردين أمّنا السوق وقمنا بواجبنا لكن المشكلة تكمن في مكان آخَر».
مَن المسؤول إذاً عن فقدان الحليب؟ هل هي الصيدليات التي خزّنت الحليب بانتظار ارتفاع سعره؟ أم ثمة «ثقب أسود» في استهلاك حليب الأطفال؟
الصيدلانية ريتا أبو خليل تقول لـ «الراي» إن «الصيدليات شهدتْ هجمةً من الناس على شراء حليب الرضع تحت السنة وباتت كل عائلة تشتري 6 أو 7 عبوات وتنتقل الى صيدلية أخرى لشراء المزيد. حتى الحليب المخصص لعمر ما بين سنة وسنتين صارت أسعاره ترتفع شيئاً فشيئاً الى أن انقطع تماماً، وحين أعيد الى الأسواق كان بكميات محدودة وبسعر عالٍ. بعض الأمهات فضّلن الاستمرار بإعطاء إطفالهن ممن هم فوق السنة حليب السنة الأولى المدعوم السعر فيما أخريات فضلن الانتقال إلى أصناف أخرى غير التي اعتدنها لكونها متوافرة في الصيدلية أو لكون سعرها أرخص.
وبعضهنّ أعطين أطفالهن الحليب العادي المتوافر في الأسواق بأسماء معروفة، الى أن انقطعت غالبية هذه الأسماء. وشكل هذا الأمر مشكلة حقيقية بالنسبة للأمهات.
وبعض أطباء الأطفال نصحوا الأمهات بالانتقال الى الحليب السائل الذي وإن لم يكن خاصاً بالأطفال ومدعّماً بالحديد والفيتامينات إلا أنه معقّم ويمكن أن يكون البديل الذي لا يسبب مشاكل صحية للصغار.
الموضوع دقيق ولا يمكن للصيدلي البت فيه من دون العودة الى طبيب الأطفال ولا سيما في السنتين الأوليين من عمر الأطفال».
نقيب مستوردي الأدوية بدوره يؤكد «أن زيادة مبيعات حليب الأطفال ما دون السنة تعود الى تهافت الناس على شرائه وتخزينه وربما أيضاً الى بعض عمليات التهريب التي تحدث نظراً لكونه لا يزال مدعوماً.
وتهافت الناس مفهوم ومنطقي، فهم حين يسمعون بشكل يومي التهديد بوقف الدعم في آخر شهر مايو ويتم التهويل عليهم بالمجاعة الآتية فلا شك ان أول ما يفكرون به هو تأمين الحليب لصغارهم فيتهافتون على شراء كميات كبيرة تؤدي الى فقدان المخزون من الصيدليات».
تخبط مالي وسوء في التوزيع
«الحق على الناس إذاً»؟ نسأل النقيب جبارة، فيجيب: «بالطبع لا، بل على مَن يهوّل على الناس بشكل يومي ويضعهم تحت ضغط وخوف لا يُحتملان.
الناس خائفون من رفع الدعم ويعرفون جيداً أنه في حال حصل سيرتفع سعر عبوة الحليب من 12 ألفا إلى 100 ألف ليرة وهذا أمر مخيف».
حتى الصيدليات لا يتهمها النقيب بتخزين الحليب «بل هناك سوء في آلية توزيع وبيع الحليب.
فالمستوردون يُنْزِلون كميات كافية الى الأسواق لكنها لا تصل الى الزبائن بشكلٍ متساوٍ وعادل.
فالبعض قادر مادياً على التنقل بين الصيدليات وشراء كميات كبيرة من عبوات الحليب فيما البعض الآخَر قد لا يملك القدرة المادية لشراء أكثر من عبوة.
ولذلك يجب ضبط التوزيع بشكل عادل لتأمين الحليب للجميع.
وقد سبق لوزير الصحة (حمد حسن) أن أصدر مذكّرتيْن يطلب فيهما من المستورد عدم تزويد الصيدليات إلا بكمية محددة ومن الصيدلي عدم بيع الزبون إلا كمية محددة جداً بحيث ينال كل شخص حصة كافية».
رغم ما يقوله النقيب والتطمينات التي يسعى لإعطائها، ثمة تساؤلات تدور في بال كل مواطن لبناني: ألا يلعب جشع التجار وتخزينهم للبضائع المدعومة دوراً في فقدانها من الأسواق بانتظار ان يستفيدوا من ارتفاع سعرها فيما بعد؟ ولماذا لا يتم استيراد كميات أكبر من الحليب لتلبية الطلب المتزايد عليه؟ وماذا سيحلّ بقوت الأطفال حين يتم رفع الدعم من مصرف لبنان؟
أسئلة يجيب جبارة عن بعضها قائلاً «إن مستوردي الأدوية وحليب الأطفال لِما دون السنة لا يمكنهم التخزين لأن مخزونهم غير مدفوع مسبقاً بل يستوردون على حسابهم في انتظار أن يحوّل مصرف لبنان الأموال بالدولار الى الخارج وهو أمر يحتاج أقلّه ألى أربعة أشهر.
ولذا هم لا يغامرون بتخزين موادهم بل يسارعون الى بيعها حتى يستردّوا رساميلهم ولا يغرقوا في خسائر في حال قرر مصرف لبنان وقف الدعم.
أما مخزون الصيدليات فأمره مختلف لأن الصيدلي يشتري من المستورد بالليرة اللبنانية بسعر مدعوم وإذا ارتفع السعر يمكنه الاستفادة من ذلك.
من جهة أخرى، باتت عمليات الاستيراد من الخارج متعثرة فالمورّد الخارجي لا يسلّم قبل تسلُّم متوجباته وبات يشعر بالخوف من عدم تسديد مصرف لبنان لهذه المتوجبات.
ولذا لم يعد يبيع المستورد اللبناني إلا كميات محدودة.
من هنا فإن النقص بالحليب قد يحصل لعدم قدرة الشركات على زيادة الكميات المسلّمة للأسواق نظراً لعدم قدرتها على زيادة الاستيراد الذي يستهلك ما تبقى من مخزون مصرف لبنان بالعملة الصعبة».
هي قضية متشعبة إذاً لا تخلو من جشع بعض التجار الذين حوّلوا حليب الأطفال ما فوق السنة سلعة استهلاكية تخضع لقانون العرض والطلب ويرتفع سعرها مع زيادة الطلب عليها لا بل يتم إخفاؤها من وقت الى آخِر لفرض أسعارها الجديدة على الأمهات اللواتي يتهافتن لشرائها بأي سعر خوفاً من انقطاعها مرة جديدة من السوق.
وما مشاهد «الخناقات» التي تحصل في السوبرماركت وتتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي سوى دليل صارخ على هذا التلاعب بمصائر الناس وقوت أطفالهم.
ولم يكن عابراً أن يتردّد دويّ أزمة الحليب في بلدان الانتشار اللبناني الذي بدا كأنه «يتجنّد» لنجدة أطفال «بلاد الأرز».
وقد عبّرت عن ذلك الإعلامية ريما مكتبي، مديرة قناة «العربية» في لندن، حين غرّدت: «فيما كنتُ أشتري حليباً للأطفال من كارفور في دبي لإرساله الى لبنان سألتني البائعة:(أرى الكثير من اللبنانيين يشترون الحليب لإرساله لبلدهم، لماذا؟)… لم أجد الكلمات للإجابة، خنقني القهر!».
حلقة مفرغة باتت واحدة من الحلقات المتداخلة الكثيرة التي تشدّ على خناق اللبنانيين وتغرقهم أكثر فأكثر في دوامة من الخوف والقلق الذي لم يعد يوفّر مستقبل أطفالهم و… صحّتهم.