كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:
بعد رحلة استقصاءٍ عميقة في عالم تهريب المخدّرات، حاولنا خلالها كشف وسائل جديدة ومبتكرة تستعملها الشبكات المنخرطة في هذا المجال، توصلنا إلى معرفة مجموعة خدع، معظمها غير معلوم، وبعضها يثير الدهشة من هذا العقل البشري المتفرِّغ للشرّ، والذي يخوض حرباً لا تنتهي لنشر الموت بين الناس. الأخطر من هذا أن تتحوّل المخدِّرات إلى «ثقافة» لها مساحاتها الإعلامية و«نجومها» الذين يتحوّلون إلى «أهل خير» وأصحاب نخوة وشهامة، ولا ينقص سوى تتويجهم كأكثر الأشخاص مثالية في المجتمع!
حوّل الإعلامُ «كبار المهربين» إلى «فلاسفة» يقدّمون تجارة المخدّرات على أنّها «فعل وطنيّ»، بينما لجأ آخرون إلى استغلال شعار مواجهة «الإرهاب» ليعلنوا مبايعة الأمين العام لـ«حزب الله» في «حربه ضدّ التكفيريين» لتختلط الأوراق، ويصبح تجار المخدرات «مجاهدين» لا يُشقّ لهم غبار!
تأتي قصة مسلسل «20-20» بعد مسلسل «الهيبة» لتكرّس إصرار البعض على تقديم الصورة «الإنسانية» للمهرّبين، وتزيين وجوه المجرمين واستبدالها بوجوه النجوم والنجمات أصحاب الملايين من المتابعين الذين يتمتعون بمحبة الجمهور، فنصبح أمام مشهد تطبيع خبيث مع إحدى أخطر الآفات الاجتماعية، عندما تتحوّل الحلقات إلى مساحة لنشوء علاقات الحب والغرام بين «الخير والشر»، وبين الإجرام والقانون.
يُدخلُنا هذا التقاطع إلى بُعد آخر، يوضح ما للمخدِّرات من مكانة في عالم «الفن الملغوم» وما يحمله من اختلاطٍ بين التمثيل والواقع، مع سقوط فنانين من مختلف الأوزان في أتون جحيم هذه الآفة، من دون الوقوع في التعميم، ومع استغلال هذا القطاع في أعمال التهريب لأنّ من يدير الإنتاج الأوسع للمخدرات، تمكّن من تصنيع «فنانين» وهميين، وأوجد لهم مساحات ومنصات ليظهروا فيها وليخلقوا لهم جمهوراً، يعطيهم «شرعية» الفن، وأمثال هؤلاء موجودون في المستوى الهابط من الأعمال الفنية، خاصة مع بروز «فنانين شبيحة»، يحصلون على تراخيص حمل السلاح ويتنقلون بحصانة أمنية كاملة، يجري استثمارُها في التهريب.
لسنا بحاجة إلى ذكر أسماء هؤلاء، لأنّ متابعة بسيطة لأخبار الأمن والقضاء ولوسائل التواصل الاجتماعي، وبعض المواقع الفنية، كفيلة باستخراج هويات العشرات إن لم نقل المئات من هذه النماذج التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من شبكات التهريب.
«فنون» التهريب: عبقريات شيطانية
اللاّفت في مسلسل «2020» أنّه تضمّن عرض وسائل «لغم» الخضار والفواكه بالحبوب المخدِّرة، وخاصة الرمان، وهو ما جرى تطبيقه فعلياً في شحنة المخدرات التي كشفتها أجهزة الأمن في المملكة العربية السعودية، لكنّ الفارق أنّ رمان التهريب إلى أرض الحرمين جرى توضيبه وفق تقنية عالية بآلة جرى تصميمها خصيصاً لهذه الغاية، ولم تعبئه عاملات في مخبأ على طريقة «التقوير» للطبخ، كما صوّر لنا مسلسل «2020».
زراعة المخدِّرات في الملفوف
في عالم التهريب، نجمٌ جديد، غير معروف إلاّ في جانب خاص من هذا العالم، يتفوّق على الرّمان، لأنه لا يحتاج إلى فتح وتفخيخ، أو إلى تدخّل يد الإنسان، بل يمكن القول حرفيا إنّه يصلح لـ«زراعة» الحبوب المخدِّرة فيه، ألا وهو «الملفوف»، والنوع الأحمر منه تحديداً.
يقوم المهربون بزراعة الملفوف، ومع نموّ النبتة وبداية تشكّلها، يجري وضع أكياس المخدرات في جوفها، في كلّ ملفوفة مظروف وزنه أوقية واحدة. ثم تستكمل نموها لتغلق على الأكياس المخدِّرة، وهذا يجعل من شبه المستحيل كشفها، على الكلاب البوليسية وعلى وسائل الكشف الأخرى.
أمّا الصبّار، فيستغلّ المهربون أنّه لا يمكن تفتيش الصناديق التي يتمّ شحنه فيها، لأنّه سيتعرّض للتلف في هذه الحال، فضلاً عن وجود الأشواك فيه، لهذا يتمّ تمريره على آلات الكشف، وهي تعجز عن اقتفاء أثر المخدر فيه، وهذا يسمح للمهربين بفرش أرضية معدّلة للصناديق، بمظاريف المخدرات المسحوقة، والأمر نفسه ينطبق على صناديق الجنارك، مع إضافة موادّ عازلة تعطّل عمل الكلاب البوليسية، و«تخدع» الآلات. لهذا لاحظ المراقبون اهتماماً متزايداً من شبكات التهريب، بزراعة الملفوف والصبار وخاصة في منطقتي بعلبك والهرمل.
يخضع تهريب المخدرات من خلال شحنات البطاطا لطريقة خاصة، حيث يقوم المهرِّبون بضمان مساحات واسعة مزروعة بالبطاطا من أرضها، فيجري اقتلاعُها مع الجذور، والإبقاء على كميات من الأتربة في العلب الكرتونية أو الأكياس الخاصة بالتعبئة، لتكون الغطاء النموذجي لدسّ مسحوق الموادّ السامة.
ملاذات آمنة للتهريب.. والتوحّش
أرسى القائمون على أعمال التهريب محطات مناطقية منتشرة على امتداد الأراضي اللبنانية، تجري فيها عمليات التوضيب والتخبئة للحبوب المخدِّرة، تتوفّر فيها «عدّة الشغل» المطلوبة لزرع المواد المهربة في الأماكن التي توفر أعلى إمكانيات النجاح في تجنّب آليات التفتيش والرقابة، كما أنّها تحظى بتغطية أمنية تمنع أيّ جهاز في الدولة من الاقتراب منها، رغم علم المسؤولين بوجودها.
هذا غيضٌ من فيض عالم الشرّ الذي بات يحاصرنا في الداخل من خلال شبكات تنشر السموم بين شباب المناطق اللبنانية، ويعتدي على عالمنا العربي ومحيطنا المتوسطي، في حرب أشرس من الحروب بالسلاح والصواريخ، لتضرب عميقاً قلب الانتماء الإنساني، فمن يدخل عالم المخدِّرات يخرج من الإنسانية ليتحوّل وحشاً كاسراً قاتلا يبدأ بأهله وينتهي بنحر المجتمعات البشرية، في ظلّ تقدّم الدعاية والتطبيع مع هذه الآفة وتراجع حملات الردع والتوعية من مخاطرها الهائلة.