… «صندوقة هلع». هكذا بدا لبنان عشية عيدٍ سيحلّ بطعْمِ مرارةِ يومياتٍ صارت مطبوعةً في الأيام الأخيرة بمؤشراتٍ مُخيفةٍ عن أسعار سـ «تطير» لتتسع معها دائرةُ «البطون الخاوية»، فيما تَمْضي الطبقةُ السياسيةُ في تَبادُل «الولائمِ المسمومةِ» على تخوم أزمةِ تأليف الحكومة التي تشي كل المؤشرات، أقله حتى الساعة، بأنها بقيةة… وتتمدّد.
ولم يكن أكثر دلالة على الواقع المُفْجِع الذي «يُطْبِقُ» على اللبنانيين من مختلف الجهات، من انفلاش أزماتٍ متزامنة سرقتْ حتى «قطرة» الفرح من عيد الفطر، وسط تكرار أكثر من مشهدية مذلة، تبدأ من طوابير السيارات أمام محطات البنزين في غالبية المناطق في محاولة لـ «الفوز» ببضعة ليتراتٍ، وليس انتهاءً بفقدان أدوية من الصيدليات، وما بينهما من لوائح أسعار «محرَّرة» بالكامل من أي دعم صارت «تغزو» هواتفهم ومواقع إلكترونية وكأنها بطاقات عبور إلى جهنّم… الموعود.
وإذا كان تهافُت اللبنانيين على محطات البنزين، التي رفع الكثير منها أمس خراطيمه، كما على السوبرماركت لتخزين سلع، وعلى الصيدليات للحصول على ما أمكن من أدوية وخصوصاً التي لا تحتاج إلى وصفة طبية، رُبط بتحوُّل رفْع الدعم عن المواد الإستراتيجية أو ترشيده حقيقةً «زاحفة» على الأرض وإن من دون إعلان رسمي، فإن اختفاء بعضها من الأسواق أو تقنين تسليمه إلى المستهلكين بدا بدوره مرتبطاً بغاياتِ تحقيق أرباح طائلة من فارق الأسعار بعد أن يصدر «الإشعار الرسمي» بانتهاء التسعير سواء وفق دولار الـ 1510 (الرسمي) أو دولار الـ 3900 (المنصة الإلكترونية).
وفيما كان توجيه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كتاباً إلى وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال راوول نعمة عن «تعديل آلية بيع الدولار بالسعر الرسمي مقابل الليرة، بحيث تتطلب الآلية الجديدة الحصول على موافقة مسبقة من مصرف لبنان لأي طلبات جديدة» يشكّل مؤشراً «أكد المؤكد» لجهة اقتراب نفاد الدولارات القابلة للاستخدام وتالياً محاولةً لبدء تكييف الأسواق مع مرحلة ما بعد رفْع الدعم، فإنّ اقتراب «كأس السم» هذه زادتْ من وطأته مبالغاتٌ انجرف إليها المواطنون الذين باتوا رهائن كوابيس متلاحقة تطاردهم منذ أشهر.
وإذ برزت محاولاتٌ لاحتواء الهلع عبر تصريحاتٍ من نوعِ أن غالبية السلع التي يشتريها اللبنانيون حالياً هي وفق سعر السوق وأن الأدوية سيطالها ترشيدٌ يشمل بشكل رئيسي تلك التي لا تحتاج إلى وصفة طبية بحيث ستكون وفق سعر منصة الـ 3900 ليرة (سيرتفع مثلاً سعر علبة البانادول من نحو 5 آلاف ليرة إلى نحو 20 ألفاً) ومع خفضٍ للدعم على الأدوية المزمنة من 85 إلى 80 في المئة ومن دون أي رفْع دعمٍ عن الأدوية السرطانية، فإن مجرّد التفكير بأسعار المحروقات بحال تم تحرير سعرها (والإبقاء على دعم 15 في المئة) وسط تقديرات ببلوغ سعر صفيحة البنزين 140 ألف ليرة (نحو ربع الحد الأدنى للأجور) والمازوت 110 آلاف، كان كفيلاً برسْم سيناريواتٍ بالغة القتامة عن أعظم آت… بات وشيكاً.
وحتى «المبادرة المفاجئة» التي أعلن عنها مصرف لبنان مؤكداً بدء مفاوضات مع المصارف تسمح «بتسديد تدريجي (اعتباراً من نهاية يونيو) للودائع التي كانت قائمة قبل 17 أكتوبر 2019 وكما أصبحت في 31 مارس 2021، وذلك بالعملات كافة» ما يعني السماح لأصحابها بسحب جزء من أموالهم العالقة بالدولار وبمبالغ تصل إلى 25 ألف دولار إضافة إلى ما يساويها بالليرة اللبنانية، تعددت القراءات لها.
فالبعض لم يفصلها هذه الخطوة عن العدّ العكسي لرفْع الدعم ومحاولة تهدئة الغضبة الشعبية المتوقّعة، فيما ربطها البعض الآخر بتدوير زوايا الأرقام المقترحة لتشملها البطاقة التمويلية للعائلات الأكثر فقراً والتي غرقت في وحول التجاذبات السياسية، وسط توقف أوساط متابعة عند قرْن حاكم «المركزي» رياض سلامة السير بهذا الطرح بالحصول على غطاء قانوني عُلم أن المقصود به «تبنّي البرلمان قانون الكابيتال كونترول»، أي ضبط رؤوس الأموال وهو ما ذُكر أمس أنه يحتاج «إذا صفت النيات» حيال اعتماده نحو شهرين.
ولم يكن ينقص المشهد اللبناني سوى إضراب تحذيري بدأه القطاع الطبي أمس (أطباء ومستشفيات خاصة توقفوا عن استقبال إلا الحالات الطارئة) ولمدة أسبوع احتجاجاً على حكْم صدر الأسبوع الماضي عن محكمة الاستئناف برئاسة القاضي طارق البيطار في قضية الطفلة ايلا طنوس (بُترت أطرافها) وقضى بدفع عطل وضرر بقيمة 9 مليارات ليرة لبنانية ( 750 ألف دولار حسب سعر الصرف)، ودخل شهري مدى الحياة بمقدار أربعة أضعاف الحد الأدنى للأجور بتاريخ الدفع الفعلي، إضافة إلى عطل وضرر لوالديْ الطفلة بقيمة 500 مليون ليرة لكل منهما.
وقد اعتبرت نقابة الأطباء التي نفّذت أمس وقفة رمزية أمام قصر العدل في بيروت أن «الحُكم خاطئ وجائر، وينعكس سلباً على مستقبل الطبيب ويهدد الأمن الصحي للمواطن».
وعلى وهج «الملفات الحارقة» مالياً واقتصادياً واجتماعياً، بقيت السياسة غارقةً في عملية «عض الأصابع» التي صارت تُلعب في «الوقت القاتِل» الذي يزداد استشعارُ المجتمعين العربي والدولي بمخاطره «الوجودية» على الوطن الصغير وشعبه، ولكن من دون أن تكتمل عناصر «سيبة الإنقاذ» الخارجية التي لا مفرّ منها لشقّ «ممرّ آمِن» للبنان خروجاً من النفق… المميت.
وبعد «تنكيس» وزير الخارجية الفرنسي جان ايف – لودريان مبادرة بلاده حول الملف الحكومي لمصلحة إعلاء راية الإجراءات المشددة بحق شخصيات لبنانية انطلق قطار تقييد دخولها باريس (لاتهامها بعرقلة تأليف الحكومة أو تورطها بالفساد)، شخصت أنظار بيروت بقوة قبيل اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي في بروكسيل على مآلاته المحتملة في ضوء حسم أن رئيس الديبلوماسية الفرنسية سيحمل معه إلى الاجتماع خلاصات زيارته لبيروت والمرحلة الجديدة التي بدأتْ مع ما يشبه «الحُرم السياسي» الذي فرضْته فرنسا على غالبية الطبقة السياسية، وإن من دون توقعاتٍ عالية بإمكان أن تنجح في تحقيق أي خرقٍ تقف بطريقه جدران إقليمية قبل الداخلية.
وكان بارزاً قبيل اجتماع بروكسيل كلام الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل عن أن بعض الدول الأوروبية قلقة للغاية إزاء تدهور الوضع في لبنان، وقال إنه بحث الأزمة مع وزير الخارجية اللبناني شربل وهبة، الأحد، معرباً عن أسفه لعدم تحسن الوضع في لبنان.
وكانت قناة «العربية» نقلت عن ديبلوماسي أوروبي أن «قسم العمل الخارجي الأوروبي وزّع ورقة خيارات على الدول الأعضاء، تشمل حوافز لتفعيل الشراكة مع لبنان، إذا تزود بحكومة إصلاحات»، مؤكداً أن «الورقة لا تستبعد خيار العقوبات»، مضيفاً: «إننا نتقدم خطوة خطوة باتجاه إجراءات ملموسة».
وفي حين ترى أوساط في بيروت أن أي عقوبات أوروبية دونها تعقيداتٌ تبدأ بالوقت الذي يتطلّبه إنجاز نظام العقوبات الخاص بلبنان أولاً ثم الحاجة إلى إجماعٍ أوروبي على مثل هذه العقوبات، فإنها دعت لرصْد إذا كانت دول أخرى يمكن أن تلاقي فرنسا «إفرادياً» بهذا المسار ولو من خارج الاتحاد، مثل بريطانيا وفق ما كانت لمحت إليه تقارير في ضوء تقارُب وجهتي نظر البلدين حيال مخاطر الأزمة اللبنانية، ولكن قبل أن تدخل علاقات لندن وباريس في دائرة التوتر على خلفية «أزمة السمك» واتهام فرنسا لبريطانيا بعدم الامتثال لاتفاقات الصيد المنصوص عليها في اتفاقية خروجها من الاتحاد الأوروبي.
وكان لافتاً حرص باريس، عبر مصدر فرنسي تحدثت إليه صحيفة «نداء الوطن» البيروتية على التأكيد تعليقاً على زيارة لودريان لبنان أن مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون «لم تمت»، مستغرباً ما قاله الإعلام اللبناني عن أنّ لودريان ذهب إلى بيروت لدفنها، ونافياً في الوقت نفسه أن يكون هناك مشروع لدعوة قيادات الأحزاب اللبنانية إلى باريس كما تردَّد إعلامياً.
https://www.alraimedia.com/article/1534539/خارجيات/العرب-والعالم/لبنان-موت-السياسة-يحيي-كوابيس-الانهيار-الزاحف