جاء في جريدة “الراي” الكويتية:
يوم لم تكن «المولات» أو السوبرماركات الكبيرة قد غزتْ المدن وحتى البلدات النائية، كان هناك مكان دائماً للدكاكين الصغيرة. في كل ضيعةٍ دكانٌ يتجمّع حوله الرجال صباحاً ومساء، للعب طاولة النرد وتبادُل الحكايا وأخبار البلدة وجوارها، وحيث تقصدها النساء للتبضع أحياناً كثيرة بالديْن، فيمتلئ الدفتر الكبير بأسماء وأسماء والمبالغ المستحَقّة.
كانت الدكاكين مصدر أخبار للجميع بما في ذلك الصحافيين الذين يقصدون البلدات لتغطية خبرٍ ما، زمن الاحتلال الاسرائيلي، وزمن الانتفاضات، والحروب الداخلية والتهجير، وكل أنواع الأخبار اليومية أيام الانتخابات البلدية والنيابية.
خلال الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، بدأ انتشار السوبرماركات المتوسطة بخجلٍ، لكنها سرعان ما أخذت تتوسع بعد الحرب تحديداً، حين فتحت أبوابها الكبيرة وتمددت في كثير من المناطق من الشمال الى الجنوب معزَّزةً بفتح مولات كبيرة بأسماء ماركات أوروبية، تشرع أبوابها لبضائع غربية فتنشط حركة الاستيراد من كل البضائع التي أغْنت السوق اللبنانية الخارجة من أزمات الحرب.
وظلّ الدكان رفيق القرى والبلدات، وبقيت بيروت بأحيائها القديمة، تستوعب الدكاكين الصغيرة، في دورةِ عملٍ محلية بحت، فيما نالت السوبرماكت العزّ الذي جعل من توسُّعها نشاطاً تجارياً أساسياً في سوق العرض والطلب.
منذ أن بدأ ارتفاع سعر الدولار في لبنان ارتفاعاً قياسياً قبل أكثر من عام، تَغَيَّرَ المشهد التجاري في بيروت الأكثر استيعاباً للحركة التجارية. صارت السوبرماركت المكان الذي تتقاطع فيه الخسائر المالية وانحسار عملية الاستيراد ومَشاهد تراجُع نوعية البضائع المستورَدة، وغياب الحد الأدنى من الرفاهية التي كانت عنوان جذْبٍ للزبائن. وصارت السوبرماركت دكاناً كبيراً، لا يتمتع بأي خصوصية، وعاد العزّ للدكان الصغير، في زمن «كورونا»، ومع بضائع انتشرتْ في الأسواق، بعضها الجيد، وبعضها غير معروف الهوية، بأسماء غريبة وعجيبة لم يسمع بها اللبنانيون قبل مرحلة انخفاض سعر عملتهم الوطنية.
حين فَتَحَ أحد السوبرماركت الكبرى في وسط بيروت بعد الحرب مع نهضة الأسواق التجارية، حفلتْ الحملات الإعلانية بالترويج لشتى أنواع البضائع، المأكولات الفاخرة، الأسماك وثمار البحر من نوعيات وجنسيات مختلفة، الأجبان واللحوم المبرَّدة وحلويات غربية من بسكويت وشوكولا وأطعمة فطور وكل أنواع البضائع «اللوكس» في مفهوم الذواقة، من مشروبات وسيكار وسجائر وغيرها. وحتى أنواع المشتريات من أدوات منزلية راقية، وحاجات يومية كانت بدأت تعود إلى لبنان المنفتح مجدداً على أسواق غربية بعد سنواتِ انقطاعٍ طويلة.
كانت الإعلانات تبدو وكأنها تتوجّه لطبقةٍ معيّنة من اللبنانيين الذين يقصدون وسط بيروت حيث تنتشر المحال الفاخرة، والمطاعم من الباب الأول. لكن هذا الرغد في العيْش تمدّد إلى محال أخرى ومولات وسوبرماكات أخرى، وجعل كل ما يستورده لبنان تقريباً في أيدي غالبية سكانه. فبيروت التي تنتشر فيها بعض المحال المتخصصة في المآكل الرفيعة، المشهورة بأسمائها وفرادتها، صارت مقصداً وخصوصاً مع حالة السلم والبحبوحة التي شهدها لبنان بعد انتهاء الحرب، وإن كانت بحبوحة ظهر أنها فقاعة صابون يوم انهارتْ الليرة، نتيجة الفساد المتحكّم بالسلطات السياسية المتعاقبة وجشع المصارف وسوء إدارة الأزمة المالية.
يوم انهارت الليرة، تحوّلت هذه المحال فجأة الى سراب. انهارت طبقة التجار الذين كانوا يستوردون من الخارج. فلبنان يعتمد على الاستيراد في كثير من مواده الغذائية بعكس الانطباع السائد. الطحين والسكر والقهوة والشاي، القمح والأرز والعدس وكل أنواع الحبوب مستورَدة، كما غالبية أنواع الأجبان واللحوم المبرَّدة واللحوم العادية والأسماك. فهؤلاء التجار يعتمدون على التسعير بالدولار وفتْح اعتماداتٍ في مصرف لبنان. وبفعل الإشكاليات بين المصرف المركزي والتسعير بالدولار والدعم على بعض المواد الأساسية، ناهيك عن الخسائر التي ضربت التجار الذين تضرّرت مخازنهم ومستودعاتهم إثر انفجار المرفأ (4 أغسطس الماضي)، كلها عوامل ساهمت في ضرب هذا القطاع. ومع الاعتراف بوجود بعض المستفيدين منهم في عملية الاحتكار، إلا أن طبقةً أساسية منهم، تعاني عدم وفاء مصرف لبنان بالتزاماته تجاهها وفتح الاعتمادات، ما تَسبب بخسائر فادحة لهم.
يذكّر عمال صناديق المحاسبة الزبائن بأسعار سلع ارتفعت فجأة، ولم تتمكن السوبرماكت من تغيير أسعارها، مفسحين المجال لإعادة البضائع إلى مكانها، حين يصبح سعر «سطل المياه» 130 ألف ليرة بالحد الأدنى أي ما يوزاي مبدئياً 10 دولارات، لكنه يوازي ثمن كيلو لحم بقر في لبنان حالياً، أو حين تصبح قفازات الجلي تساوي سعر صفيحة البنزين.
صارت بيروت أشبه بسوبرماركت فارغة أو مليئة بكل ما لم يكن التجار أو الزبائن يتعاطون معه على أنه من أصناف الدرجة الأولى أو الثانية. وغابَ كل ما يمكن استيراده من مواد غذائية كانت تشكّل هويةً تفاخر بها المحال التجارية، ولم تعد المحال الغربية تستورد بضائع ألمانية أو فرنسية أو إيطالية كانت تشتهر بها، بل تحولت إلى دكان كبير لكل ما يمكن توافره مدعوماً أو غير مدعوم في لبنان. اختفى حليب الأطفال ومنتجاتهم الغذائية اليومية، وحتى أدوات طعامهم. فكل ذلك أصبح سعره فوق المعدلات المعقولة.
وقد تكون ظروف «كورونا» لاءمت العائلات التي تفضّل اليوم عدم عودة أبنائها الى المدارس، لأن «زوادة» أي ولد، باتت تقصم الظهر، بعد ارتفاع أسعار الأجبان والألبان والشوكولا وغالبيتها مستورَد من الخارج، والفاكهة.
ورغم وجود مصانع أجبان وألبان لبنانية تتمتع بجودة عالية، إلا أن أسعار المنتجات المحلية ارتفعت حُكْماً، مع ارتفاع أسعار العلف والنقل والأدوات البلاستيكية المُعَدّة للتوضيب. والأمر ذاته ينسحب على الدجاج بعد ارتفاع أسعاره وأسعار البيض.
وفي حين أن لبنان بلد مصدّر للفاكهة، إلا أن أسعارها أيضاً ارتفعت نسبةً إلى ارتفاع أجور العمال وغالبيتهم من جنسيات أجنبية يتقاضون رواتبهم بالدولار، ونتيجة ارتفاع أسعار مواد المبيدات والفيتامينات والتوضيب. حتى «عروسة الزعتر» اللبنانية ومنقوشة الزعتر ارتفع سعرها بعدما أصبح سعر كيلو الزعتر اللبناني الصافي بما بين خمسين و75 ألف ليرة ووصل لدى بعض المحال الى عشرين دولاراً. ناهيك عن المكسرات اللبنانية التي ارتفع سعرها في شكل خيالي، وباتت النكات تطلق حول ارتفاع سعر كيلو الصنوبر الى ما يقارب مليون ليرة حتى أنه صار يسعّر بالدولار تماماً كما أونصة الذهب. علماً أن هناك محالاً تجارية عمدت إلى منْع الزبائن من حمْل «أغراض ثمينة» من مأكولات وجوز ولوز وصنوبر الى الصندوق، بل ان هذه البضائع توضع في علب خاصة عند الصندوق بـ «حراسة مشددة» لبيعها للزبائن «خوفاً من السرقة».
ويروي أحد التجار أن البضائع الحالية الموجودة في السوق من الصف الثالث والرابع ولا سيما الأرز والحمص والبن والزيوت النباتية، مختلفة طَعْماً وفوائد غذائية، لكن الدعم الحالي يستوجب خفض قيمة البضائع، ومنها ما لم يكن يشتريه التجار الكبار عادةً من دول المنشأ، واللبنانيون مضطرون الى التعايش مع هذا الواقع.
وتخبر إحدى السيدات كيف أنها لا تزال منذ سنة منقطعة تماماً عن شراء الحلويات التي أصبحت أسعارها خيالية، وخصوصاً في فترة الأعياد وعلى أبواب الصيف، ليصبح مثلاً سعر كيلو البوظة 250 ألف ليرة أي أكثر من ثلث الحد الأدنى للأجور. وساهمتْ أزمة كورونا والبقاء في البيت في تحوّل النساء إلى صناعة الحلويات البيتية، ليكتشفن لاحقاً ارتفاع أسعار المواد الأولية من زبدة وطحين وسكر وبيض.
كل عجقات العيد تذهب حلاوتها مع تغيُّر المشهد في السوبرماكت الفارغة رفوفها من أصناف كانت تمثّل عادةً بهجة الأطفال والكبار. ومَن يشتري لوح شوكولا بـ 45 ألف ليرة بعدما كان لا يتعدى 6 آلاف ليرة، أو علبة بسكويت بثلاثين ألف ليرة وكان ثمنها خمسة آلاف ليرة، قبل أن يخبر التاجر أنها المرة الأخيرة التي يستورد فيها هذه المنتجات.
تتغيّر حياة اللبنانيين واللبنانيات في كل مَظاهر الحياة، في المأكل والمشرب، في الأزياء، والعطور وأدوات الماكياج التي أصبحت خارج متناول الكثير منهم. وإذا كان البعض يعتبر أن هذه كماليات في زمن الجوع والفقر، فهل يمكن للنظافة أن تكون أيضاً كماليات ولا سيما في مرحلة الأمراض المنتشرة. وكيف يمكن التعامل مع انتشار كورونا في ظل غلاء أسعار الصابون وأمواد التعقيم وتنظيف المنازل؟
ماركات تنظيف غربية اختفت من الرفوف، وحلّت محلها على طرق بيروت وفي بعض البلدات مصانع صغيرة لخلْط مواد كيمائية لا تُعرف مصادرها ولا خطورة المزج بينها وتُباع على أنها منظفات. أدوات تعقيم غير معروفة المصدر، تتشابه بالاسم، فيما المعروفة تباع الواحدة منها بـ 90 ألف ليرة.
كل شيء يتبدّل ويصبح البلد أكثر فقراً وأكثر «بهدلة» في مظهره العام. أدوات منزلية عريقة في لبنان منذ ما قبل الحرب سحبت منتجاتها وأقفلت فروعها… صحون كرتونية أصبحت تباع وكأنها من زجاج، وأدوات منزلية تباع بالقطعة. مستوردو أدوات كهربائية من برادات وغسالات، باتوا يعدّون بضائعهم بالقطعة بعدما تحوّلت هذه البضائع من لبنان إلى بلدان أخرى نتيجة التعثر في فتح اعتمادات وارتفاع الأسعار نسبةً إلى الدولار. ومَن بمقدوره أن يشتري في لبنان اليوم براداً بألفي دولار أي بما يوازي 26 مليون ليرة، وحين يصبح ثمن مقلاة 900 ألف ليرة أي أكثر من الحد الأدنى للأجور المحدَّد بـ 675 ألف ليرة وكان يساوي قبل ارتفاع سعر الصرف 450 دولاراً لتصبح قيمته اليوم نحو 52 دولاراً.
… كل شيء يتغيّر في بيروت. سُرقت هوية الدكان والسوبرماكت، وصار التبضع مأساةً يومية… على حافة الفقر والإذلال اليومي.