رغم الاقتناع المتزايد بأن الحدود اللبنانية – الإسرائيلية لن تَخْرُجَ عن دائرة «التوتر المضبوط» أو «المُدَوْزن»، فإن التحرّكات اليومية التي تشهدها تَضامُناً مع غزة بدأتْ تثير مخاوف من احتمال تَحوُّلها فتيلاً قابلاً للاشتعال سواء بخطوةٍ «طائشة» أو بفعل «حماسة زائدة» وإما بعامل «غير محسوب» يدخل على الخط.
ولا تزال أوساطٌ واسعة الاطلاع تعتبر أن «أزرارَ التفجير» من المقلب اللبناني يتحكّم بها بالكامل «حزب الله» الذي يتمسّك بمعادلةِ «لا نريد حرباً ولكن إذا فُرضت علينا وبادر إليها العدو فنحن لا نخشاها وسننتصر بها»، في حين أن أي «تحرشاتٍ» بتوقيعٍ فلسطيني مباشر أو «مقنّع» لن يتم التعاطي معها اسرائيلياً إلا على أنها «رسالة بلا عنوان»، على غرار ما حصل بالنسبة الى الصواريخ الثلاثة التي أُطْلِقتْ من بساتين قريبة من مخيم الرشيدية جنوب صور (ليل الخميس) وسقطت في البحر قبالة السواحل الشمالية لإسرائيل.
وفي حين ترى هذه الأوساط أن الوقائع العسكرية في المواجهة بين «سيف القدس» و«حارس الأسوار» تُحْدِث ما يكفي من الإرباك لإسرائيل التي تُراكِمَ حتى الساعة الخسائر على مستوى هيْبَتِها وقدرة الردع المحكومة بضوابط ميدانية لا يمكن تَجاوُزها والتي تبحث عن مَنْفَذ لتكون لها «الكلمة الأخيرة» في المعركة بما يعيد أقلّه «قواعد الاشتباك» لِما كانت عليه قبل «هَبّة النار» الأخيرة، تَعتبر أن إطالةَ أمد هذه الحرب يُخشى أن يستجرّ تحولاتٍ في سياقاتها، ولا سيما من الجانب الاسرائيلي لـ «تكبير الحجر» ولو موْضعياً استدراجاً لحلّ أكثر «شمولية»، سواء اقتضى ذلك افتعال أو «استغلال» أي خطأ على حدودها مع لبنان أو رفْع منسوب عمل آلة الحرب ضدّ غزة.
وتذكّر الأوساط نفسها بأن المواجهةَ المستجدة تَجْري على مسرحٍ سياسي – ديبلوماسي يشكّل الملف النووي الإيراني أبرز عناصره التي يتداخل معها عنوان الصواريخ البالستية وأذرع طهران في المنطقة، وهو العامل الذي لا يغيب عن قراءة البعض لتوقيت «الاندفاعة الحمساوية» وما تعنيه من «رسالة تذكيرية» بمَن يُمْسِك بمفتاح الأمن والاستقرار في هذه البقعة الاستراتيجية، ولا عن تَرصُّد «قوس الخيارات» بالنسبة لاسرائيل التي ستستفيد من ورقة «خطرَ الصواريخ» التي بات لا صوت يعلو فوق صوتها في هذين الاتجاهيْن.
ومن هنا، تشير الأوساطُ إلى أنّ ترْكَ الحدود الجنوبية مفتوحةً لتحركات شعبية تتركّز حالياً في بلدة العديسة وبوابة فاطمة وصولاً الى كفركلا ويشارك فيها فلسطينيون ولبنانيون، سيعني الإبقاء على عنصر توتيرٍ «جاهِز للاستثمار» في اتجاه أو آخَر، ولا سيما أن هذه التظاهرات تترافق مع عمليات رشق بالحجارة من فوق الجدار الفاصل في كفركلا (شيّده الاسرائيليون من العديسة الى كفركلا) واستهداف لكاميرات مراقبة مثبتة على السياج الذي يعلوه، ويردّ عليها الجيش الاسرائيلي سواء بإطلاق النار أو القنابل المسيلة للدموع وهو ما أدى الى وقوع 3 جرحى يوم السبت، ناهيك عن حضور «حزب الله» بطريقةٍ أو بأخرى: مرةً في الوقفة التضامنية يوم الجمعة (في سهل الخيام) مقابل المطلّة والتي قُتل خلالها محمد طحان (نعاه الحزب) وجُرح آخَر جراء سقوط قذيفتين أطلقتْهما قوات الاحتلال الاسرائيلي بالقرب منهما خلال محاولتهما مع عدد من الشبان دخول المستعمَرة عبر السياج الشائك.
ومرة أخرى عبر ما جرى تَداوُله عن قيام عناصر من «حزب الله» مع الجيش اللبناني بالفصل بين متظاهرين والشريط الحدودي في مقابل مستوطنة افيفيم (السبت) بعدما نفذ متظاهرون وقفة رمزية لإحياء الذكرى الـ73 للنكبة في مارون الراس.
ويحاول الجيش اللبناني المنتشر بكثافة على خط العديسة – كفركلا ضمان عدم انتقال متظاهرين عبر الطريق المؤدية الى سهل مرجعيون حيث الشريط الشائك الفاصل بين البلدين قبالة المطلّة، وهو كثّف إجراءاته أمس في القرى الحدودية، وسط انتشارٍ لقوةِ «اليونيفيل» وذلك قبيل تَجَدُّدِ التحركاتِ التضامُنية التي شملتْ ايضاً تَوَجُّهَ أنصارٍ من تيار «المستقبل» (يقوده الرئيس سعد الحريري) نحو بلدة مروحين (قضاء صور) المُطِلّة على مستعمرة «زرعيت» في موازاة تحرك للجماعة الإسلامية في بلدة العباسية الحدودية (قضاء حاصبيا) المحاذية لمزارع شبعا قوبل باستنفار اسرائيلي.
وتَرافَقَ ذلك مع قيام قوة تابعة للجيش الإسرائيلي بعملية صيانة للشريط الفاصل والكاميرات التي حطمها المحتجون الفلسطينيون مقابل كفركلا. وهي عمدتْ الى إزالة الأعلام الفلسطينية التي نصبت على الشريط الفاصل.
وما يجعل الواقع جنوباً محور معاينةٍ لصيقةٍ، أن لبنان الذي لا يصحّ عليه حتى أنه «يقف على رِجْل ونصف» مالياً واقتصادياً بعدما بات «مبتور الرجلين» على هذا الصعيد، لا يحتمل أي «عواصف» أمنيةٍ أو عسكرية، سواء عبر تحويله مجدداً «صندوقة بريد بالنار» أو أخْذه بجريرة الحرب على غزة، لأنها ستكون بمثابة «الرصاصة القاتلة»، ولا سيما وسط استمرار انسداد أفق أزمة تأليف الحكومة وعدم تَوَقُّع إحداث اختراقاتٍ قريبة فيها.
وبانتظار تَبَلْوُر كامل ملامح «عصا» العقوبات الأوروبية التي بات مرجّحاً أن تُفرض خلال أسابيع قليلة على «صعيد وطني» للغالبية الساحقة من دول الاتحاد الـ 27 التفافاً على عدم القدرة على تحقيق إجماع على صدورها تحت مظلة الاتحاد، ومن دون أن يتّضح إذا كانت ستستند على عنوان الفساد أو عرقلة تشكيل الحكومة أو كلاهما معاً وفق ما ارتكزت عليه إجراءات التقييد الفرنسية التي بدأت على دخول شخصيات لم تُعلن أسماؤها، لم يكن عابراً تسليم رئيس الجمهورية ميشال عون السفيرة الفرنسية آن غريو رسالة خطية إلى الرئيس إيمانويل ماكرون تتناول التطورات الأخيرة بين البلدين.
وفيما رُبِطَ هذا التطور بمتابعة نتائج زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان – ايف لودريان لبيروت واستباق العقوبات الأوروبية التي وإن من شأنها تكريس الطبقة السياسية في غالبيّتها «خارجة على القانون» الدولي، فإن «إصابتها» رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل (صهر عون) سيعني «ضربة قاضية» لطموحه الرئاسي هو المستهَدَف أيضاً بعقوبات أميركية، استوقفت الأوساط السياسية زيارة بدأها النائب سيمون ابي رميا (من تكتل باسيل ويحمل الجنسية الفرنسية) لباريس بصفته رئيساً للجنة الصداقة البرلمانية اللبنانية الفرنسية حيث ستكون له اجتماعات مع المسؤولين الديبلوماسيين وأعضاء في مجلسيْ النواب والشيوخ للاطلاع على الأجواء الفرنسية بما يخصّ بالملف اللبناني، معتبرة أنه لا يمكن فصْلها عن مساعي فريق عون لاحتواء «الآتي أوروبياً».
وقد حضرت مجمل المخاطر على الواقع اللبناني في عظة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي حدّد 9 لاءات كبيرة بصيغة «لا نقبل بتاتاً».
فالراعي أعلن «لا نقبل بتاتا بأن تمعن الجماعة السياسية في قهر الناس وذبح الوطن، ولا أن تذهب أموال دعم السلع إلى المهرّبين والميسورين والتجار وأن تُفقد الأدوية والمواد الغذائيّة والوَقود، ولا المسّ باحتياطي المصرف المركزيّ فتطير ودائعُ الناس، ولا أن تبقى المعابر البريّة الحدودية مركزاً دولياً للتهريب، والمطار والمرفأ ممرّين للهدر الموصوف، ولا أنْ يَستمرَّ الفسادُ في أسواقِ الطاقةِ والكهرباء ويَدخُلَ لبنانُ عصرَ العتمة، ولا أنْ تهاجرَ الأدمغةُ اللبنانيّةُ والنُخبُ وأهلُ الاختصاص، ولا أنْ يُعتَّمَ على المرتَكِبين الحقيقيّين ويُبحَثَ عن أكباشِ محارق، ولا أنْ تُضربَ مؤسّساتُ الكِيان والنظام، ولا أن يُعزَلَ لبنانُ للإطباقِ عليه بعيدًا عن أنظارِ العالم».
وفي حين دعا من هذا المنطلق المسؤولين «لتحريك مفاوضاتِ تأليف الحكومة، فالجمودُ السائدُ مرفوضٌ، وبات يُشكِّلُ جريمةً بحقِّ الوطنِ والشعب»، تطرّق الى «ما يحصل بين إسرائيل والشعب الفلسطيني الصامد وهو تحول نوعي خطير في مجرى الصراع على الأرض والهوية»، معتبراً «ان ما يَتعرّض له الفِلسطينيون يُدمي القلوب، لاسيّما أنَّ بين الضحايا أطفالاً ونساءً وشيوخاً».
وشدّد على أنه «حان الوقت لوقف مسلسل العنف والهدم والقتل، وإقرارِ حلٍّ نهائيٍّ للقضيّةِ الفلسطينيّةِ، وندعو إسرائيل إلى الاعترافِ الجِدّيِ والصريحِ بوجود حقوقٍ للشعب الفلسطينيّ، وبأنّه يستحيل عليها أن تعيشَ بسلامٍ من دون القبولِ بدولةٍ فِلسطينيّةٍ قابلةٍ للحياة. فلا سلامَ من دون عدالةٍ، ولا عدالةَ من دون حق».
وأضاف: «في هذا المجال ندعو السلطاتِ في لبنان إلى ضبطِ الحدودِ اللبنانية- الإسرائيليّة ومنعِ استخدامِ الأراضي اللبنانية منصةً لإطلاقِ الصواريخ. فحذار أن يَتورَّطَ البعضُ مباشرةً أو عبر أطرافٍ رديفةٍ في ما يجري، ويُعرضّون لبنان لحروبٍ جديدةٍ. لقد دَفع اللبنانيّون جميعاً ما يكفي في هذه الصراعات غير المضبوطة. ليس الشعبُ اللبنانيُّ مستعدًّا لأن يُدمِّرَ بلادَه مرّةً أخرى أكثر مما هي مُدمَّرة. يوجد طرقٌ سلميّةٍ للتضامنِ مع الشعبِ الفِلسطيني من دون أن نتورّطَ عسكريًّا. فمن واجب لبنان أن يوالفَ بين الحيادِ الذي يَحفظُ سلامتَه ورسالته، ويلتزم في تأييدِ حقوقِ الشعبِ الفلسطيني».
https://www.alraimedia.com/article/1535290/خارجيات/وهج-غزة-يصيب-لبنان-ب-توتر-ممسوك