… هل هو تحريكٌ للملف الحكومي ضمن «الدائرة المقفَلة»؟
سؤالٌ طغى على المشهدِ اللبناني مع استعادةِ أزمةِ تأليفِ الحكومةِ الجديدة أولويّتها داخلياً على وهج تدحْرُج «كرة النار» في الأراضي الفلسطينية المحتلة واطمئنانٍ نسبي إلى أن «بلاد الأرز» مرشّحة للبقاء بـ «أمان» عن الانجرارِ إلى «حلقاتها الحارقة»، أقلّه تبعاً لحسابات صاحب الإمرة على «الزناد» من الجانب اللبناني أي «حزب الله».
وبدا واضحاً مع انتهاء عطلة عيد الفطر التي طبعتْها توترات «ممْسوكة» على الحدود اللبنانية – الاسرائيلية مع تحركاتٍ فلسطينية ولبنانية داعمة لغزة، أن «شيئاً ما» يَجْري على جبهةِ تشكيلِ الحكومة ولكن من دون أن يعني ذلك وجود مؤشراتٍ لإمكان النجاح حيث فشلتْ كل المحاولات السابقة على امتداد الأشهر التسعة الماضية.
فعلى وقْع بوادر استعادة الشارع زخمه الاعتراضي عبر عمليات قطْع طرق «بالمفرّق» لبعض الوقت أمس في بيروت (كورنيش المزرعة) وطرابلس احتجاجاً على الواقع المعيشي الكارثي، وبروز أول إشارةٍ خطرة إلى تداعيات ترْك الانهيار بأزماته المتوالدة يأخذ مداه وهو ما عبّر عنه مقتل شخص في ببنين العكارية (الشمال وهو ابن صاحب محطة محروقات) بإطلاق النار عليه نتيجة خلاف على تعبئة مادة البنزين الشحيحة في لبنان، لاحتْ بوادرُ إنزال الملف الحكومي من على الرفّ من خلال ما بدا أنه «شيفرة مورس» (MORSE CODE) ستكون الأيامُ القليلةُ المقبلة كفيلةً بتفكيكِ رسائلها، خلفيات وخفايا.
ولعلّ أبرز النقاط التي استوقفتْ أوساطاً مطلعة تمثّلتْ في أن لعبةَ «الإشاراتِ المتناقضة» التي مارَسها الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري في الأسبوعين الماضييْن في ما خص إمكان اعتذاره عن المضي في مهمّته قبل أن «يكبح» هذا التلويح، استُكملتْ بعلاماتٍ غيرمسبوقة أقرب إلى الـ «لعم» من أجواء الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي حيال إمكان أن يكون بديلاً من زعيم «المستقبل» بحال اختار الأخير أن يُنْهي تكليفه المستمرّ منذ أكتوبر الماضي والذي يصطدم بشروطٍ من رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه يرفضها الحريري الذي يصرّ على تشكيلة من اختصاصيين غير حزبيين بلا ثلث معطّل لأي فريق ولا محاصصة سياسية.
وتساءلتْ هذه الأوساط هل ان «المرونة» المستجدّة، وإن بحذَر، بإزاء إمكان تولّي ميقاتي مهمة ما بعد أي اعتذارٍ للحريري هي تعبير عن جوّ حقيقي يعكس أن خيارَ الانسحابِ من التكليف مطروحٌ جدياً لدى زعيم «تيار المستقبل»، أم أن وراءَ الأمرِ ما يشبه «المناورة» لتقوية موقف الحريري في «المعركة الحكومية» على قاعدة أن أي بديلٍ عنه لن يكون إلا «الحريري – 2» بمعنى الذي سينطلقُ في مسار التأليف من حيث انتهى سَلَفه وبتنسيق وتَكامُل معه، بدليل «دفتر الشروط»، الداخلية والخارجية، التي نُقل عن أجواء ميقاتي أنه ينطلق منها مسبقاً للسير بأي تكليفٍ مع «ضمانات» بتشكيل سريع وبتوافر «الرافعة» العربية والدولية لمسيرة الإنقاذ.
وفيما رأتْ الأوساط أن اعتبارات عدة تدخل في حساب أي خطوة من نوع اعتذار الحريري، متوقفة عند كلام الأمين العام لـ«تيار المستقبل» أحمد الحريري أمس رداً على ما يشاع عن الاعتذار عن «أن الرئيس المكلف كان واضحاً ولم يصدر عنه أي شيء، وكل ما صدر عبارة عن تسريبات إعلامية، وستكون له مواقف واضحة في المرحلة المقبلة بما فيها مصلحة البلد وهموم الناس مع درْسه لكل الخطوات والخيارات للوصول إلى القرار الصحيح»، لاحظتْ ما جرى التعاطي معه على أنه «ليونة» مستجدة من رئيس الجمهورية حيال الحريري من خلال ما جرى تسريبه نقلاً عن مصادر قصر بعبدا من أن عون لم يتحدث يوماً عن رغبته باعتذار الرئيس المكلف ولا هو عمِل في هذا الاتجاه وأن كل ما يُطلب من الحريري أن يقدم صيغة حكومية متكاملة مرتكزة على الميثاقية والتوازن الوطني الذي يحقق الشراكة الكاملة.
وإذ قرأت بعض الدوائر هذا الموقف على أنه يعكس استشعار عون بما قد يترتّب على اعتذار الحريري وتالياً يمهّد لتراجُعاتٍ في شروط هذا الفريق، فإن الأوساطَ المطلعةَ اعتبرتْ أن مضمونَ ما نُقل عن مصادر بعبدا لا يؤشر لأيّ تَخَلٍّ عن لعبة «لي الأذرع» التي تعبّر عنها معادلة التشكيل وفق معيار «الميثاقية والتوازن الوطني» (أي تسمية الوزراء المسيحيين أو غالبيتهم العظمى) بمقدار ما أن فريق رئيس الجمهورية لا يريد تَحمُّل تبعاتِ مثل هذا الاعتذار تجاه الخارج وخصوصاً في ضوء دخول لبنان في أجواء قرب صدور عقوبات أوروبية على شخصيات لبنانية من بوابة عرقلة التأليف والفساد انطلاقاً من خلاصاتِ زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان – ايف لودريان لبيروت التي «قاطَع» فيها الطبقة السياسية واعتمد ديبلوماسيةَ غَضَبٍ «قطعت الأمل» بإمكان نجاح المبادرة التي قادتْها بلاده منذ سبتمبر الماضي.
وفي حين اعتُبرتْ الرسالة التي وجّهها عون إلى الرئيس ايمانويل ماكرون عبر السفيرة الفرنسية في بيروت إشارةً لرغبة رئيس الجمهورية في محاولة «تصحيح مسار» أي عقوباتٍ آتية و«تحديد المسؤوليات» عما آل إليه الملف الحكومي، لم يكن عابراً وفق الأوساط المطلعة نفسها الاتصال الذي أجراه وزير الخارجية المصري سامح شكري (السبت) بالحريري باحثاً «تطورات الوضع المتأزم في لبنان وجهود الرئيس الحريري لتشكيل حكومة قادرة على الخروج بلبنان من الوضع الاقتصادي الحرج الذي يعاني منه»، مؤكداً «حرص مصر على التنسيق مع الرئيس الحريري والقيادات السياسية اللبنانية، من أجل تجنيب الشعب اللبناني الكثير من المشكلات في حال لم يتمّ تشكيل حكومة قادرة تشمل ذوي الاختصاص في مجالاتهم».
واكتسب هذا الاتصال الذي جدّد الدعم للحريري وتكليفه دلالاتُه البالغة لأنه أتى عشية زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لباريس وسط معلومات عن أن القمة التي جمعتْه أمس بنظيره الفرنسي (على هامش مشاركته بمؤتمر باريس لدعم المرحلة الانتقالية في السودان، وقمة تمويل الاقتصادات الأفريقية) تناولت الملف اللبناني من مختلف جوانبه ولا سيما المأزق الحكومي.
وكان لافتاً تَزامُن مجمل هذا الحِراك مع زيارة نائبة وزير الخارجية والتعاون الدولي في إيطاليا مارينا سيريني لبيروت، مؤكدة خلال لقائها عون وجوبَ «الشروع بإصلاحات عميقة وبنيوية للاستجابة للحاجات الأكثر إلحاحاً للسكان ولبنان»، ومضيفة: «لا يمكن تأجيل هذه الاصلاحات بعد الآن، ما يُلْزِم تأليف حكومة تضطلع بكامل صلاحياتها. لذلك تجدد ايطاليا دعوتها الملحة لمختلف الأطراف السياسية في لبنان بوضع اختلافاتها جانباً وتغليب المصلحة العليا للبلاد والتعاون من أجل تأليف حكومة من شأنها أن تضع لبنان مجدداً على سكة التنمية المستدامة وأن تسلك مسار الاصلاحات وإعادة اطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي».