IMLebanon

أفق مسدود في عين الأعاصير

كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:

الأفق السياسي اللبناني مسدود حتى إشعار آخر… هذا ما تشي به كافة العوامل المتصلة بما يجري في لبنان وما يدور حوله.

في الداخل شلل عام، ومحاولات بائسة لشراء الوقت، في ظلّ غياب الحدّ الأدنى من شروط تشكيل الحكومة الجديدة. وفي الخارج، أعاصير تضرب الإقليم من فلسطين الصامدة في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، إلى الصراعات الأخرى المؤجّلة على وقع الحراك النووي الذي يمكن الافتراض أنّ إيقاعه بات مضبوطاً على ساعة الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران المقبل.

كل شيء في لبنان معطّل في انتظار تطوّر ما، سواء أكان داخلياً، ويتمثل في انفجار برميل البارود الاجتماعي؛ أو كان خارجياً، ويتمثل في انعكاسات ما يجري على مستوى المنطقة من متغيّرات من شأنها أن تقود إما إلى الحلحلة أو إلى التفجير.

رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري غائب عملياً عن السمع، وبات متوقفاً في دائرة انتظار مبادرات الحل الصعب. قال الحريري كلمته ورمى الكرة في ملعب الآخرين، مروّجاً لسردية أنّه قدّم كل ما يمكن تقديمه من تنازلات لإنجاز عملية التشكيل الحكومي، سواء في ما يتصل بشكل الحكومة العتيدة أو الحصص الوزارية.

بات الحريري ينظر إلى أي تنازل جديد، على أنّه انتحار سياسي، وسيبدّد كل ما تمكن من تحقيقه في الشارع السنّي، منذ لحظة استقالته عقب انتفاضة 17 تشرين الأول. في الوقت ذاته، فإنّ الحريري يدرك جيداً أنّ نقطة الارتكاز التي يستند إليها كرئيس للحكومة تتمثل في المبادرة الفرنسية، التي باتت في حالة موت سريري إن لم تكن قد سقطت كلياً. على هذا الأساس، لم يصبح أمام الحريري سوى خيار من اثنين: إما الإصرار على موقفه أياً تكن الأثمان (التي تبقى في ذروتها أقل من أثمان التنازل)، أو هدم المعبد عليه وعلى خصومه!

على المقلب الآخر، لا يبدو رئيس الجمهورية ميشال عون – ومن خلفه جبران باسيل – في وضعية أفضل. فإذا كان الحريري قد نجح في ترميم شعبيته المتهالكة، فإنّ الرئيس وصهره ما زالا عاجزين عن القيام بذلك، برغم كل الخطوات والخطابات الشعبوية التي يمارسانها، ابتداءً من التدقيق المالي الجنائي، وسردية مكافحة الفساد، وصولاً إلى الحركات العنترية التي يتبارى مناصروهما في ابتكارها.

انطلاقاً من ذلك، فإنّ كلمة تنازل باتت مشطوبة من القاموس العوني، ليصبح بالتالي التشدّد في المواقف بمثابة السلاح الأخير الذي من شأنه أن يضمن – نظرياً – عدم تلاشي الطموحات الرئاسية الباسيلية.

بين هذين الموقفين، وحده الشعب يدفع الثمن. النهج السياسي القائم يتجاهل حقيقة أنّ الشعب قد جاع حرفياً، وأنّ الواقع الاقتصادي- الاجتماعي لم يعد يحمل أي إمكانية لترف سياسي من شأنه أن يجعل لعبة الحكم بمنأى عن المخاطر الوجودية، والذي يحدّد خمسة تداعيات كبيرة متوقعة على لبنان، ستمثل تحدّيات شائكة وستعمّق من الانهيارات التي تشهدها البلاد على كافة أصعدتها:

– اولاً، الارتفاع كبير في معدلي البطالة والفقر، حيث يُتوقع أن يؤدّي التدهور الاقتصادي مصحوباً بالتضخّم، إلى إغلاق المزيد من المؤسّسات وتوقّف العديد من القطاعات، وهو ما يعني فقدان العديد من فرص العمل، وارتفاع معدّل البطالة وتدني القوّة الشرائية وارتفاع معدّل الفقر.

يتطابق ذلك مع توقعات البنك الدولي للبنان بأن يرتفع معدّل الفقر فيه ليطال أكثر من نصف السكّان خلال العام 2021، وتوقّعات منظمة الإسكوا التي أشارت إلى ارتفاع معدّل الفقر من 28% إلى 55% بين العامين 2019 و2020، وبلوغ العدد الإجمالي للفقراء بحسب خطّ الفقر الأعلى نحو 2.7 مليوني نسمة.

– ثانياً، الهجرة وأزمة القطاع الصحي، حيث باتت الهجرة سمة بارزة في الاقتصاد اللبناني، بما يساهم في استنزاف القوى العاملة، بكل ما لذلك من تأثيرات على بعض القطاعات، أكثر من غيرها، بمخاطر تفريغها من قواها العاملة، ولا سيّما القطاع الطبّي، بما لذلك من تداعيات مباشرة على اللبنانيين، الذين سيجدون أنفسهم مهدّدين بالموت أمام أبواب المستشفيات. إلى جانب المخاطر الأخرى المترتبة على الأزمة الاقتصادية، والمتمثلة في تراجع القدرة على استيراد المعدّات الطبّية والأدوية.

– ثالثاً، تدهور مستوى التعليم، حيث يبدو جلياً، أنّ التعليم الجيد في لبنان انحصر على مدى عقود بالمدارس والجامعات الخاصّة، في مقابل إهمال التعليم الرسمي، لتأتي الأزمة الراهنة وتهدم هذا النظام الخاص أيضاً، نتيجة تراجع قدرة العائلات على تعليم أبنائها في المدارس والجامعات الخاصّة، ونضوب الموارد المالية المُتاحة للاستدانة ودعم الطلب على هذا التعليم، فضلاً عن تفريغ هذه المؤسّسات الخاصّة من كوادرها وتراجع مستوياتها نتيجة تراجع الأجور وتدحرج الانهيار.

– رابعاً، زيادة العنف ومعدّلات الجريمة، حيث يسود تخوف وحذر من تزايد نشاط المافيات والعصابات والجريمة المنظمة، كنتيجة لتنامي معدلات الفقر والبطالة، لكون «السيناريوهات» تكاد تكون واحدة في معظم المجتمعات التي تشهد أزمات اقتصادية، وهو ما يرجّح حصوله في لبنان أيضاً.

ولم يعد خافياً، أنّ الأوضاع الأمنية في لبنان تزداد سوءاً مع تفاقم الأزمة. فوفقاً للإحصائيات الصادرة عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي، ارتفعت نسبة السرقات بنحو 57% بين العامين 2019 و2020، وبنسبة 162% في الربع الأول من العام 2021، بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. أمّا جرائم القتل فقد ارتفعت بنسبة 91% بين العامين 2019 و2020، ونحو 2.4% في الربع الأول من العام 2021، بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2020.

– خامساً، تنامي النزعة الإنفصالية، كنتيجة لتعمّق الأزمة وتأثيرها على النسيج الاجتماعي في البلاد، إضافة إلى انهيار بعض محرّكات عمل النظام السياسي القائم على تحويل الدولة إلى أداة لإعادة التوزيع والزبائنية، حيث يرصد تقرير تنامياً ملحوظاً في لبنان في النزعات الانعزالية أو الشعبوية التي يُعبَّر عنها حيناً بالفيدرالية وحيناً آخر باللامركزية، باعتبارها من الأشكال التنظيمية المُمكنة لإدارة شؤون هذا المجتمع.

أمام هذا الواقع، وفي ظلّ الشلل الحالي على مستوى الأزمة السياسية، يبدو انّ لبنان اليوم أمام سيناريوهين لا ثالث لهما:

إما أن ينزل الكل عن شجرة التعنت والذهاب إلى تشكيل حكومة طوارئ، من شأنها أن تنقذ ما أمكن إنقاذه، وتحاول شق طريق الإصلاح في حقول الألغام الداخلية والخارجية.

وإما الذهاب نحو الخيارات المتطرفة التي ستقود، من دون أدنى شك، إلى انهيار شامل، بكل ما لكلمة «شامل» من معنى!