كتب الدكتور هيكل الراعي في “الجمهورية”:
في 17 تشرين الأول 2019 دخل لبنان في المجهول. أزماتٌ مالية واقتصادية وسياسية ومعيشية، معطوفة على جائحة كورونا، زحفت مُجتَمِعة على وطن الأرز، فحوّلت فرحَه حزناً، وزرعت الخوف والرعب، من تطورات سلبية مُحتَملة، في المدن والبلدات والقرى. إستقالت حكومة الرئيس سعد الحريري وتشكّلت حكومة جديدة برئاسة الدكتور حسّان دياب، وأعلن لبنان توقّفه عن سداد ديونه، ثم جاءت خطوات الإدارة الأميركية ببدء حصارٍ غير مسبوق على الشعب اللبناني، وبتطبيق قانون قيصر (الأميركي) لتركيع سوريا، لتزيد المُعاناة وترفع منسوب القلق. إنفجر مرفأ بيروت مخلّفاً دماراً رهيباً وحاصداً مئات الأبرياء، فاستقالت الحكومة وتعذّر تشكيل الحكومة الجديدة من قبل الرئيس المكلف سعد الحريري. ثم جاء الانهيار السريع لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وتراجع القدرة الشرائية لدى غالبية العائلات اللبنانية ليُبشّرا بفقدان سلعٍ أساسية، وبتغييرٍ عميق في نمط عيش إعتاده اللبنانيون، وربما بمجاعة بدأت تطلّ برأسها. فهل سيصمد لبنان موحداً أمام كل هذه العواصف والأزمات ويتمكن من تجاوزها، أم أنه سيكون عرضة للإنهيار والانحلال والتفكك؟ وهل سيشهد لبنان الهدوء والإستقرار والسلام في المدى المنظور؟
من الصعب التكهن بالفترة الزمنية التي يحتاجها لبنان للخروج من أزماته المتنوعة ومن الواقع الصعب والمؤلم الذي يعيشه، في ظل الحروب المُدمّرة التي تعيشها الأراضي الفلسطينية والتي تُمهّد لدخول الشرق الأوسط مرحلة إنهاء الهيمنة الإسرائيلية المطلقة. فمقابل إعلان القدس عاصمة للدولة اليهودية والمباشرة في ضم أجزاء واسعة منها ومن الضفة الغربية إلى الكيان الإسرائيلي مما يوسّع حدود الأراضي المُغتَصبة؛ وإقامة غالبية الدول الخليجية علاقات سياسية واقتصادية وإعلامية مع الدولة العبرية، تعيش الدول المحيطة والقريبة من دولة العدو أزمات مستعصية وحالات تفكك وتشرذم تُنبىء بمخاطر مُستقبلية على وحدة كل منها وقوتها ومناعتها. ولا يُمكن الفصل بين الأزمات التي يمرّ بها لبنان وتلك التي تعيشها دول منطقة الشرق الأوسط بدءاً بفلسطين التي تعيش تحولات عميقة في مسار قضيتها، مروراً بسوريا والعراق، وصولاً إلى ليبيا واليمن. وإذا كان لبنان تجنّب حتى تاريخه، بفضل حكمة بعض قادته، الدخول في المواجهات الأمنية والعسكرية، وهي مُحتَملة ومخطط لها، فإنّ تعمّق الأزمات المالية والإقتصادية والمعيشية فيه بدأت تُشكّل الأرضية الخصبة لاشتعال النار، خصوصا إذا ما رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الأساسية من دون تأمين البدائل. وإذا كان لكل ساحة نزاع خصائصها ولاعبوها المحليون والإقليميون والدوليون، فإنّ المشترك بين غالبية هذه الساحات يتميز بنزاع أميركي- إيراني حاد بدأ مع الثورة الإسلامية في العام 1979، وازداد اشتعاله بعد الإنسحاب الأميركي من الإتفاق النووي وفرض عقوبات قاسية جداً على طهران. الولايات المتحدة تسعى للحصول على تنازلات مهمة من إيران في الملف النووي وفي ملفات إقليمية أخرى، لذلك تستعمل كل ما في حوزتها من أوراق ضغط، وفي كل ساحات النزاع، وعلى رأسها العقوبات والحصار المالي والاقتصادي. وإيران من جهتها ترفض تقديم تنازلات وإجراء تسوية وتستعمل الأوراق التي في حوزتها للضغط على الادارة الأميركية مُتحدّثةً عن مفاجآت ستجبر الأميركيين على الانسحاب من المنطقة، ما سيؤدي إلى تراجع نفوذهم. ويُشكل لبنان، إضافة إلى سوريا والعراق واليمن وفلسطين، ساحات نزاع ومواجهة، مكشوفة ومفتوحة على كل الاحتمالات، بين القوتين الأميركية والإيرانية وحلفائهما. وفي كل الحالات إذا لم تنجح الضغوط القاسية والرسائل النارية، التي يُمارسها الطرفان، إلى إبرام تسوية ما في الأشهر المقبلة، فإن اشتداد هذه الضغوط يمكن أن يؤدي إلى انفجار عسكري، محدود ومضبوط، يُلزم الطرفين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات لصوغ تسوية تعكس موازين القوى الفعلية على الأرض. وفي إطار الكباش الأميركي- الإيراني الحاد يُراقب المعنيون مسارات الإنتخابات الإيرانية والعراقية، وخصوصاً الانتخابات الرئاسية السورية والتي تؤدي روسيا دوراً مؤثراً فيها. ويبدو أن روسيا وإيران والقوى الحليفة لهما تدعم بكل قوة الرئيس بشار الأسد لولاية جديدة بمباركة عربية ودولية ضمنية مما سيشكل منعطفاً مهماً في مسار الأزمة السورية. الإنتخابات الرئاسية السورية وتداعياتها، في ظل انفتاح عربي خليجي بدأت بشائره، يُمكن أن ترسم بعض ملامح مستقبل لبنان والمنطقة، وما على اللبنانيين إلّا الإنتظار والصبر لمعرفة المستقبل أو نوع الوصاية الجديدة التي تحضَّر لهم في المطابخ الإقليمية والدولية.
وإلى جانب أزمات العراق وسوريا واليمن السياسية والاقتصادية والأمنية والمعيشية يعيش لبنان أزمة وجودية أيضاً، في الذكرى المئوية الأولى على إنشائه. فالمُكوّنات الطائفية والجماعات اللبنانية عجزت خلال القرن الماضي عن بناء دولة ووطن. والأزمات والحروب التي عاشها اللبنانيون والتي انتهت باتفاقات، أبرزها «اتفاق الطائف»، لم تساعد على بناء الدولة المدنية ولا على بناء مُواطن وهوية. فالجماعات بقيت أسيرة مُعتقداتها وخوفها على وجودها ولم تخرج من شرانقها لتلتقي بالآخر وتبني معه دولة المواطنة. لذلك كلما هبّت العواصف الخارجية واشتدت الأزمات الداخلية تعود هذه الجماعات، التي فرزتها الحروب الأهلية في مناطق جغرافية، إلى التفكير مُجدَّداً في مدى ضرورة بقاء لبنان دولة مركزية مُوَحَّدة. وفي ظل المشاريع التقسيمية التي يجري الترويج لها في المنطقة، من سوريا إلى اليمن مروراً بليبيا والعراق، تبرز إمكانية إعادة النظر في الصيغة اللبنانية، التي تُعاني مجموعة من الأزمات المتشابكة، من خلال مؤتمر تأسيسي أو عقد اجتماعي جديد يمكن أن يستنبط نموذجاً سياسياً جديداً يؤمن السلام والاستقرار.
العقوبات تزرع الحقد
إن الحصار والعقوبات اللذين فرضتهما الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون والدوليون على لبنان بحجة معاقبة «حزب الله» ونزع سلاحه، أدّيا إلى أزماتٍ مالية واقتصادية ومعيشية أصابت كل مُكوّنات المجتمع اللبناني، ولم تؤثر إلا بنحو محدود في الحزب وبيئته. فمن الخطأ الاستراتيجي التعامل مع «حزب الله» على أنه فريق طارئ على المجتمع اللبناني يمكن عزله ومعاقبته. فهو جزء صلب من هذا المجتمع ولا يحوز فقط على تأييد الغالبية الساحقة من أبناء الطائفة الشيعية، بل له مؤيدون عند كل الطوائف والجماعات داخل لبنان وخارجه. لذلك، فإنّ العقوبات الأميركية والدولية والخليجية، رغم قساوة نتائجها، يمكن أن تُصاب بالفشل ولا تؤدي إلى النتائج المرجوة، وستزرع الحقد عند شرائح واسعة على الأميركيين وحلفائهم وسياساتهم. وإذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يسعون إلى خنق «حزب الله» من خلال إجراءاتهم العقابية، فماذا سيفعلون مع حلفائهم اللبنانيين الذين يُناهضون الحزب وسلاحه وسياساته، فهل سيخنقونهم أيضاً أم سيحافظون عليهم للاستفادة من مواقفهم في المستقبل؟ فإذا ساعدوا حلفاءهم عبر ضَخ المال والغذاء لهم، مقابل المال والغذاء اللذين يحصل عليهما الحزب ومؤيدوه من إيران ومن مصادر أخرى، سيفشل الحصار ولن يؤدي إلى نتيجة. أما إذا رفضوا مساعدة حلفائهم فإن الأزمة المعيشية وشبح المجاعة سيجبران هؤلاء على التوجه إلى الحزب وبيئته لتأمين حاجاتهم مع إمكانية تحوّلهم مؤيدين للمقاومة، أو محايدين على الأقل. فماذا تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها قد حصدا من عقوباتهما؟ إن معالجة سلاح الحزب لا يمكن أن تتم إلا من خلال اتفاق داخلي على استراتيجية دفاعية تحظى بمظلة إقليمية ودولية، وتأتي في إطار المفاوضات الجارية لمعالجة الأزمات وإطفاء النيران المشتعلة وتقاسم مناطق النفوذ، وليس من خلال تدمير لبنان النموذج العالمي الرائد للعيش والتفاعل الحضاري المثمر والغني بين المسيحية والإسلام.
أهداف العقوبات والضغوط الأميركية على لبنان لا تنحصر بالتأكيد في نزع سلاح «حزب الله»، بل هناك أهداف أخرى تتناول الحدود البحرية مع كيان العدو واستخراج النفط والغاز، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين، واحتضان النازحين السوريين. المرحلة صعبة وقاسية، والفقر سيزداد، ونمط معيشة اللبنانيين سيتغير، لكن الأشهر المقبلة ستكون حبلى بالمفاجآت، وما على اللبنانيين إلا الصبر وعدم الوقوع ضحايا الإشاعات والحرب الإعلامية النفسية التي تُشنّ عليهم وتشارك فيها جهات سياسية ومصرفية وإعلامية معروفة الأهداف والغايات. فمن الصعب جداً أن ينهار لبنان ويتفكك وأن يجوع شعبه، رغم قساوة الأزمات وحدّتها وتشابكها، لأن لا مصلحة للقوى الدولية والإقليمية الفاعلة في ذلك. ففي انهيار لبنان تغيير كبير للخريطة الجيوسياسية للمنطقة ولمعادلات وتوازنات كثيرة بنيت خلال العقود الماضية.