كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
بدا السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي البارحة مزهواً وهو يُردد من وراء الزجاج المطل على أقلام الإقتراع: “مشهدٌ رائع رائع رائع”. وبدا السوريون المتصببون عرقا، كمن أكل ضربة شمس على الرأس، وهم “محشورون” في مربعات، ثم في خط طويل، ثم وهم يتوجهون “دركبة”، جماعات جماعات، نحو غرف الإقتراع “السرية” هاتفين: “بالروح بالدم نفديك يا بشار”. لا بُدّ أن بشار كان يضحك كثيراً البارحة.
20 أيار 2021. هو يومٌ يفترض أن يكون فاصلا في ملفِ النزوح السوري. فمن اختار بشار الأسد رئيساً، بشار الأسد ينتظره. فليغادر “مع السلامة”. هنيئا لسوريا به. فليس من مشهد مقزز أكثر من الإقتراع الى “سيادة رئيس” هجّر المقترع. إنفصام؟ فلنُبحر في يوم الانتخاب السوري الطويل في لبنان.
جعجع والحريري وجنبلاط
زلاغيط تُسمع من بعيد. وأصوات عبر مكبرات الصوت تنادي: “الله سوريا بشار وبس”. نقترب أكثر فترتفع الأصوات أكثر. الجيش اللبناني في كلِ مكان. تدقيق. وعرق كثير يتصبب من جباه العناصر. نقتحم الجموع في ظلِّ توالي رسائل عن توترات وإشكالات في يسوع الملك وفي سواها بين شبان المناطق وراكبي الباصات السورية. فئوية؟ عنصرية؟ من راقب حركات الناخبين السوريين في السفارة السورية في لبنان والمحيط وسمع ما قالوه يُدرك أنهم كانوا يتقصدون الإستفزاز. لم يترك هؤلاء نعتاً إلا وألصقوه بثلاثة: سمير جعجع وسعد الحريري ووليد جنبلاط. أحدهم وقف في الساحة، بينما كان السفير السوري يتحدث، وراح يصرخ وراءه: “جعجع جعجع يا خاين”. ما خصّ جعجع بانتخاباتكِ اليوم؟ سألناه. أجاب بحنقٍ وبنظرتين مفترستين: “جعجع جايتك أيام رح تنداس”. نكرر عليه نفس السؤال فيجيب: “مش عاجبك سجلي إسمي قاسم مطر سوري من الضاحية ويتابع هاتفاً “فليسقط فليسقط جعجع فليسقط”. نحار ما إذا كان قاسم هذا قد أتى لينتخب بشار الأسد أم ليُسقط سمير جعجع.
هذا الإستفزاز بدا مقصوداً. عشرات الآلاف حُشروا في مربعات. وكل مربع يتقدمه راعٍ. ونساء من الغجر زحفنَ رافعات صور بشار والزغاريد. هنّ أتينّ من البقاع. وكل واحدة معها أربعة أو خمسة أطفال. أتوا رحلة الى بيروت. من سينتخبنَ؟ بشار. ومين غيرو؟ هناك إثنان غيره؟ يسألوننا: “ومَن يجرؤ؟ ما بدنا إلا بشار”. ما دمنَ يعبدنَ بشار فلماذا لا يذهبنَ إليه؟ يجبنَ كما الببغاء: “نذهب حين نشاء”.
كل خمسين شخصا يدخلون الى مركز الإقتراع في السفارة معاً. والتنظيم تقوم به رابطة العمال السوريين في لبنان. خالد حسين المصري (أبو ربيع) مسؤول عن الرابطة يقول: “نحن لدينا أربعة فروع في لبنان. ونحن مسؤولون عن تنظيم الانتخابات. أمّنا باصات من بيروت والمناطق. وهناك 25 باصاً وصلت من بيروت، من بئر حسن تحديداً، يسع كل واحد 40 مقعداً. تأتي الباصات ثم تعود وتذهب لتأتي بناخبين آخرين”.
“هاجوج وماجوج”. ولا أحد يسمع أحداً. ولا أحد يرى من صور المرشحين الثلاثة الى الرئاسة السورية سوى صورة بشار الأسد. نبحث عن مندوبي المرشحين الآخرين عبدالله سلوم عبدالله ومحمود أحمد مرعي فيقول لنا أحد المنظمين: “إنسوا”. نسينا. لكن أحببنا أن نتأكد. صوتٌ عبر مكبر الصوت يقول: “سوريا إلنا ومش للكلاب” ويضيف بطلبٍ الى الزاحفين: حضروا أوراقكم الثبوتية. كلنا بشار”. كلهم بشار الذي يرتفع في صورٍ بعينين شديدي الزرقة.
كلّه مسموح
الأوراق الثبوتية المسموحة (مبدئيا) هوية ممهورة من النظام أو جواز سفر ممهور أيضا منه. لكن كثيرين أتوا محملين بإخراجات قيد قديمة. أحدهم سأل آخر: “سيدنا مسموح بها؟” أجابه بابتسامة عريضة: “كلو مسموح”. نضحك أو نحزن؟ نتذكر أن بشار جُدد له ثلاث مرات بنسبة إستفتاء وانتخاباً ( آخر مرة بنسبة 88،7%) . فنعرف أنه إكراما لسيادته “كلو مسموح”.
نشفق على الناخبين. نشعر حيناً باستفزازهم المقصود ثم نعود لنشفق عليهم. لكن، كيف ينتخبون؟ نسأل أحدهم فيجيبنا: “هناك ثلاث صور لثلاثة مرشحين (لأن 99 في المئة من الناخبين لا يعرفون القراءة) وليس عليهم إلا وضع إشارة “صحّ” (على شكل علامة التيار الوطني الحرّ) تحت إسم بشار ووضعها في الصندوق”. يقترب ناخب منا يستعير القلم ويضع علامة تحت صورة بشار وهو يتمايل مع الأغنية التي تصدح في الساحة “يسلم ترابك يا شام إنت القلعة اللي بتحمينا والحضن اللي بيدفينا”. يدفعه أحد المنظمين من الوراء قائلا: “يلا أسرع أسرع”.
عشائر الرقة وصلت. جاءت من البقاع. أجسادٌ متحركة. وصوت يرتفع وتتكرر وراءه الأصوات كما الببغاء “نحنا ولادك سوريا”. أحد المشاهدين لا المشاركين “يتفرج” ويبتسم حين يسمع أولاد العشائر يطالبون “بطاقيات” (قبعات) إسوة بكل الآخرين. ويعدونهم بها بعد ان يسقطوا أوراق الإقتراع. فما رأيه؟ لماذا يبتسم؟ يجيب “محتار من سيفوز؟”. ويعود ويضحك. نبتسم له ونطالب بشرح أكثر فيقول: “أصدر بشار منحة للموظفين قيمتها 50 ألف ليرة سورية. وثمن البطيخة في سوريا حاليا 74 ألفا. نجح من جديد بالضحك عليهم”.
تصل رسالة جديدة: إشكالات تحصل في المناطق. وترتفع من جديد الزلاغيط. وإمرأة تصل رافعة باقة ورد أحمر قطفتها من شتلة أتت بها من ريف دمشق وزرعتها في البقاع اللبناني. تقبلها ثم تقبل وجنة بشار. نسألها: لماذا لا تذهبين الى هناك وتقبلينه مباشرة؟ تجيب: “ليش في شغل؟”. “ليش” هنا في لبنان يوجد “شغل”؟ نسألها. تتذمر من السؤال وتتمتم كلمات كثيرة وتمشي نحو الصندوق. شباب يضعون على ظهورهم عبارة “أمن القيادة”. أمن أي قيادة؟ يجيب أحدهم: “البعث في لبنان”. يخرج السفير السوري في لبنان يعطي مقابلة ويعود ليدخل. يخرج ويدخل. وفي جواره مطران. وجود رجل دين مسيحي في المكان ضروري للإشارة الى “الأمان” الذي يقدمه بقاء بشار الأسد في سدة الرئاسة. نقترب من رجل الدين. نلقي عليه التحية يُجيبنا بأخرى. نسأله عن اسمه؟ يجيبنا بسؤال عن المؤسسة التي ننتمي إليها. نقول له: “نداء الوطن”. فيشير بيده بحركة معناها: حلّوا عني. نسأل أحد المنظمين في الجوار عنه فيقول: “إنه إبن القامشلي المطران جورج أسادوريان”. نلحق بالسفير والمطران. الإتصالات تتوالى على هاتف السفير. هناك من يهنئه على مقابلته التي أعطاها للتلفزيون السوري. فيجيب: “ما نمرّ به اليوم فيه إسعاد وإجهاد. وهذا الحشد يدعو الى الإعتزاز بمحبة السوري الى سوريا الحبيبة. وهو بداية مشجعة لعودة السوريين الى سوريا التي تريدهم”.
السفير يتكلم
نقترب من السفير ونطلب منه الإجابة على سؤالين. يسأل بدوره عن مرجعيتنا. “نداء الوطن”. نخبره. فيجيبنا: “لا أريد إعطاء مقابلات”. نقول له: مضى عليك طوال النهار وأنت تعطي مقابلات. ونطرح سؤالا: هناك مشاكل كثيرة تحدث على الطرقات… يقاطعنا بإجابة: “هناك بعض المشاكل لا مشاكل كثيرة وأضعها ضمن التشويش الذي هو في غير محله”. من يشوش؟ “لا أريد أن أسمي. وأنا أعرف أن اللبنانيين بغالبيتهم يرون مصلحة في عودة السوريين الى سوريا. والدولة السورية ترحب بهم. فليرجعوا بنفسية مفتوحة خصوصاً أن سوريا استعادت عافيتها والوضع في لبنان جدّ صعب. وبالتالي حين يعودون يجب أن يرحب اللبنانيون أيضا بذلك. أما الكلام التحريضي فأراه في غير محله”. هل المشهد الإنتخابي يشي باقتراب عودتهم؟ يجيب “سوريا تريدهم البارحة قبل اليوم لكن هذا يحتاج الى تنسيق بين الدولتين. سوريا تريد كل السوريين لكن هناك عائق كورونا، لكن على الرغم من ذلك فسوريا أقدر على حماية أبنائها من بقائهم في لبنان الذي يواجه وضعاً صعباً”. هل نفهم من ذلك أن الوضع في سوريا أصبح أفضل من لبنان؟ يرن هاتفه فيجيب ونسمع بعض ما قال: “الأمور في نهر الكلب تمت تسويتها” و”الثلم الأعوج من الثور الكبير” واضطررنا الى تمديد الإنتخابات الى الثانية عشرة ليلا وانشالله أكثر”. يعود إلينا قائلا: “العائق في عدم عودة السوريين ليس عند سوريا. السوريون يريدون العودة وسوريا تريدهم ويفترض الضغط في هذا الإتجاه على الأمم المتحدة التي تمنحهم 40 دولاراً شهرياً. نقول لها أعطي المبلغ الى السوريين في سوريا وهذا المبلغ على تواضعه سيصبح له قيمة عشرة أضعاف عن قيمته في لبنان. فمبلغ 40 دولاراً في لبنان ستصبح قيمته ألف دولار في سوريا. فعالية هذا المبلغ في سوريا أكبر بكثير من فعاليته في لبنان. في كل حال بعد مشهدية هذا النهار يفترض أن يكون الإقناع قد أصبح أكبر”. يصل قنصل كازاخستان في سوريا صائب نحاس مع زوجته (هما يصطافان في لبنان حالياً) فيسأل السفير الزوجة: “بعدو زوجك عيونه على الصبايا؟” ويضحكون معا.
كلّهم بشّار
تريد سوريا السوريين زائد دولاراتهم. نخرج الى موقع الإنتخاب. الزلاغيط تتكرر. وكل خمسة أو ستة أشخاص يدخلون وراء العازل معاً. هذه غرف سرية. لكن الناخبين لا سرية لديهم “فكلهم بشار”. “سوريا الأسد آخر قلاع العرب”. عبارة مرفوعة. القنوات السورية تنتشر في الساحة: “سما”، “سانا”، “التلفزيزن السوري”. وهناك أيضا “المنار” و”العالم”. والناخبون يرفعون أمامها علامات النصر. وأصوات ترتفع مطالبة الناخبين: “واحد ورا واحد متل صفّ العسكر”. لكن وحده صوت “بشار وبس” يُسمع. هرج ومرج كثير. هكذا تحصل الإنتخابات السورية.
شباب “إتحاد الطلبة السوريين” ينغلون في المكان. وأحد الرجال وصل واضعاً “شاشا” على رأسه يقول لهم: “أتيت مع 50 شخصاً سهلوا مشاركتهم”. رجل أتى بهوية زوجته الحامل ويطلب أن يقترع باسمها فيقول له أحد المنظمين: “جرّب حظك”. الحظ فرصة إستثمرها كثيرون البارحة. “نحن مع السيد الدكتور”. “نحن شعبك منريدك”… أحدهم نسي أوراقه الثبوتية في بعلبك الهرمل فماذا يفعل؟ يجيبه منظم: “حاول”. يحاول ويعود ضاحكا قائلا: “المحاولة تفيد”. حدود الجيش اللبناني خارج السفارة. والجيش ينظم في الخارج الدخول والخروج. أحد السوريين وصل مع جماعته للتوّ ويهتفون معا: “يا (…) يا كلب. ونحنا رجالك يا بشار”. تصلنا رسالة جديدة: إشكالات على الطرقات وتكسير سيارات. عنصرية من الشباب اللبناني أم همجية واستفزاز من الشباب السوري؟ ترتفع من جديد الهتافات بحقّ سياسيين لبنانيين فندرك أن ما بعد 20 ايار يفترض أن يكون مختلفاً عما قبله. فمن إنتخبوا البارحة سوريا أحقّ بهم من لبنان.
رصيد الديموقراطية الحقيقي ليس في صناديق الإقتراع فحسب بل في وعي الناس. والناخبون البارحة كانوا “كوما”.