لم تكن الخطيئةُ التي ارتكبها وزير الخارجية اللبناني شربل وهبة بخروجه عن «اللياقات الديبلوماسية» في كلامه غير المألوف ضد السعودية ودول الخليج العربي الأخرى وصمةَ العار الوحيدة في سجلّ الذراع الخارجية للبنان. فثمة صفحات قاتمة أو باهتة في سيرة مَن تولوا مسؤولية صوغ علاقات «بلاد الأرز» مع الخارج بسبب الوهن الذي أصاب الدولة بعدما نمت في أحشائها «سلطات الطوائف والأحزاب» وأمسكتْ بها عصا الوصاية السورية لمدة غير قصيرة.
وتصبح صورة الخارجية اللبنانية أكثر مأسوية في الأزمنة البائسة عندما تُفتح دفاترُها العتيقة التي تخرج منها أسماء رجالات كبار تَعاقَبوا عليها ولعبوا أدواراً مؤثّرة في رسْم سياسات أيام العزّ التي عرفها الوطن الصغير الذي كبر دورُه كنموذجٍ يُحتذى في الاقليم وذاع صيتُه يوم كانت اللبْننةُ شيئاً جميلاً.
يوم الانفجار الرهيب في المرفأ، تَصَدَّعَ قصر بسترس. «القصر» التاريخي الذي بنتْه إحدى أعرق العائلات البيروتية العام 1850، كأحد أهمّ قصور العاصمة، استأجرتْه الدولةُ اللبنانية العام 1945 ليكون إطلالةَ لبنان الخارجية فاختزن منذ ذلك الحين ذاكرةَ الأحداث السياسية التاريخية التي شهدتْها أروقتُه.
الأحجارُ المنحوتةُ والأبوابُ العتيقةُ، أصيبت بعدما هزّ الانفجارُ الهيروشيمي في المرفأ أحياءَ بيروت القديمة والجديدة، وتَصَدَّعَتْ جدرانُه وتَبَعْثَرَ أثاثُه وسقطت صُوَرُ وزراء الخارجية المعلّقة على بَهْوِه. هم الوزراء الذين تَعاقبوا على رأس الديبلوماسية اللبنانية، فتارةً حَمَلوها بِرُقِيّ وعُمْقِ فأعطوها نكهةً لبنانية صافية ومجرَّدة ما زالت آثارُها حيةً إلى اليوم، وتارةً حملوا أحزابهم وانتماءاتهم السياسية والطائفية إليها، فألحقوا بها ضرراً فادحاً وتَشَوُّهاً طال صورةَ لبنان.
والحقّ أن هذه الوزارة التي صارت اليوم إحدى الوزارات السيادية بين وزارات أربع، المال والداخلية والدفاع، لم تكن منذ ما قبل الاستقلال إلا صوت لبنان وصورته الحضارية وواجهته على العالم العربي والغربي والأمم المتحدة. وحين لم تكن الحقائب الوزارية حكراً على طائفة أو واحدة من المحاصصات السياسية، حلّ فيها الماروني والسني والأرثوذكسي والأرمني والكاثوليكي والشيعي. وتسلّمت مهماتها شخصياتٌ لامعة في الحقل السياسي وأبرز الوجوه المفكّرة، كشارل مالك، والرؤساء كميل شمعون وشارل حلو ورشيد كرامي وصائب سلام وسليم الحص وحسين العويني، وشخصيات وزارية تركتْ بصْمتها في تمثيل لبنان الديبلوماسي كفيليب تقلا.
صحيح ان أبرزهم كان مالك الذي شارك في تأسيس الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان، إلا أن عدداً من الوزراء تركوا بصمةً فيها منذ الاستقلال وإلى يوم أصبحتْ الوزارة محطةً تختبئ وراءها الأحزاب في سعيها إلى تأكيد سطوتها وحضورها وتأثيرها في سياسة لبنان الخارجية.
لا شك في أن سر الإطلالة الديبلوماسية يكمن في القدرة على الموازنة بدقةٍ بين متطلبات لبنان ومصالحه وبين ما يجري إقليمياً وخارجياً، وخصوصاً في مراحل أساسية وحساسة. ورغم أن السياسة الخارجية ترسمها الحكومات المتعاقبة، إلا ان شخصية الوزراء تلعب دورها في بلْورة صورة الديبلوماسية الهادئة أو اللبقة أو العكس تماماً، والفارضة وجودها وموقفها حتى على رئيس الجمهورية الذي كان يتمتع بسلطةٍ مستندةٍ إلى دستور الجمهورية الأولى.
على مرّ الأعوام برزت أسماء لامعة فرضت إيقاعَها سياسياً وثقافياً وإدارياً: حميد فرنجية الذي قاد مفاوضات الجلاء مع الفرنسيين خلال ولاية الرئيس بشارة الخوري، يوسف سالم في عهد الرئيس شارل حلو. وقد كتب في مذكراته كيف أودع استقالته رئيس الجمهورية خلال مرحلة «الحوادث مع الفدائيين والمجيء المتكرر لموفد الرئيس جمال عبد الناصر إلى بيروت»، وقال له «لاحظتُ أن هناك محادثات سياسية خطرة تجري بين مصر ولبنان وأنا بعيد عنها. وهذا ما لا أرضاه ولا يتفق مع المسؤوليات التي أتحملها». لم يقبل الحلو الاستقالة لكن الحكومة كلها قدّمت استقالتَها بعد حين. الموقف نفسه اتخذه أخيراً الوزير ناصيف حتي، الآتي من أجواء مغايرة تماماً لخيارات الائتلاف الحاكم في لبنان، فقدّم استقالتَه العام 2020 احتجاجاً على أداء حكومة الرئيس حسان دياب.
كانت وزارة الخارجية الذراعَ الأساسية للبنان في مفاوضات الجلاء وفي المواقف في الجامعة العربية والأمم المتحدة أيام الحروب الإسرائيلية على الدول العربية وعلى لبنان، كما كانت خلال مراحل الوجود السوري في لبنان، والاحتلال الإسرائيلي. ولذا كان اختيار وزراء الخارجية في مراحل حساسة يخضع لمعايير محددة غالباً ما تنطوي على «تفاصيل معبّرة».
ويروي الوزير إيلي سالم عن أولى العقبات الداخلية التي واجهها بعد تعيينه وزيراً للخارجية في عهد الرئيس أمين الجميل ويقول: «كنت بالنسبة إلى القادة الموارنة، إنساناً دخيلاً. إنني أرثوذكسي خرّيج الجامعة الأميركية في بيروت ناطقٌ باللغة الإنكليزية وميال إلى تشويه اللغة الفرنسية. أما القيادة المارونية فتتكلم اللغة الفرنسية، وترى في الجامعة الأميركية معقلاً للتحركات الفلسطينية وموئلاً للقومية العربية». وهو يشير إلى ان الجميل اختاره لأنه كان «يرغب في التعاون مع الجامعة الإميركية وخريجيها ويعوّل كثيراً على مساعدة الولايات المتحدة»، ويدرك أبعاد التحوّل الإستراتيجي في العالم إلى ما وراء الأطلسي.
وما قاله سالم يعكس حقيقة هذا التحول الذي عرفه لبنان حين أصبح الدورُ الأميركي أكثر فاعلية من الدور الفرنسي، ولا سيما أن سالم رافق مرحلة المفاوضات مع إسرائيل والعلاقات مع سورية. هذه العلاقات التي كان رافق تأثيرَها المباشر على لبنان وزيرٌ آخَر للخارجية هو فؤاد بطرس، الشهابي الذي تولى التفاوض مع الرئيس حافظ الأسد حين انتُخب الرئيس الياس سركيس العام 1976، حتى قبل أن يُعيَّن وزيراً للخارجية ويرافق عهد التدخلات السورية في لبنان والاحتلال الإسرائيلي والعلاقات مع واشنطن، ومرحلة الوفود العربية والمؤتمرات المكثفة لإيجاد حل لدورة العنف في لبنان.
في هذه المرحلة حاول بطرس بإيعازٍ من سركيس فرضَ إيقاع السياسة الخارجية بمعزلٍ، قدر الإمكان، عن التأثيرات السورية التي جعلتْ لبنان خلال تلك المرحلة يعيش تحت ضغط الحروب المتقطعة والتدخلات السورية.
وأمسك العماد ميشال عون يوم كان رئيساً للحكومة العسكرية الإنتقالية ووزيراً للخارجية بالوكالة بخياراتِ لبنان الخارجية في أواخر الثمانينات، قبل أن يُنتخب الرئيس الهراوي ويصبح صهره فارس بويز وزيراً للخارجية.
مرحلة ما بعد الطائف، هي مرحلة علاقات لبنان الخارجية المتكاملة مع السياسة الخارجية السورية، وقد امتدت إلى عهد الرئيس إميل لحود، وانتهت في الظاهر العام 2005، وحكمتْها الاتفاقات المعقودة بين البلدين والمسار الواحد الذي جعل لبنان يتخلى في صورة شبه كاملة عن أي تفرُّد في قراراته ومواقفه الخارجية عن تلك التي كانت ترسمها له دمشق ولا سيما في عهد وزيريْ الخارجية عبد الحليم خدام وفاروق الشرع.
بعد العام 2000 ما خلا ولاية قصيرة للوزير الراحل جان عبيد، تكرَّست وزارة الخارجية للطائفة الشيعية، إلى أن تسلَّمها الوزير جبران باسيل العام 2014. في تلك المرحلة كان من الطبيعي في ظل الأحداث التي شهدها لبنان ولا سيما منذ 2005 وخروج الجيش السوري، أن تكون الوزارة تحت سقف الاتجاهات السياسية الجديدة إن لجهة حكومات الوحدة الوطنية أو بعدما تشكلت حكومةٌ من اللون الواحد بعد الإطاحة بحكومة الرئيس سعد الحريري الأولى العام 2011. هذه المرحلة عرفت بروز ملامح الكباش الإيراني – العربي في لبنان، ومعه عرفت السياسة الخارجية سقطات ديبلوماسية بدت معها الخارجية أكثر ميْلاً لطهران في التعامل مع التوترات العربية – الإيرانية، أو إزاء المواقف من «حزب الله».
حين خاض الوزير جبران باسيل معركة الحصول على وزارة الخارجية، أثناء تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام (حكمت في ظل فراغ رئاسي) في شباط 2014 كان يتطلع إلى ما هو أبعد من الوزارة والديبلوماسية اللبنانية التي ما كادت تخرج من وحدة «المسار والمصير»، في توحيد الرؤية الخارجية في ظل الوجود السوري، حتى وجدت نفسها أسيرة مطالبة الثنائية الشيعية بها، كإحدى الحقائب السيادية، قبل أن تصبح وُجهتهما وزارة المال.
طالب باسيل بالخارجية للموارنة وهي شكلت بالنسبة إليه المحطة الأساسية في الإطلالة الدولية التي رغب بها على طريق بدء مسار إعداد نفسه للانتخابات الرئاسية، من خلال توطيد علاقاته الخارجية، إضافة إلى بناء شبكة علاقات مع المغتربين اللبنانيين. وقد تمكّن خلال سنوات توليه الوزارة، من عقد مؤتمرات للمغتربين وقام بعشرات الجولات الاغترابية، في كل أنحاء العالم، تحت عنوان ربط المنتشرين بأرضهم. وتَكَرَّسَ دورُه أكثر في الوزارة مع حكومة الرئيس سعد الحريري الذي أعادته تسوية 2016 إلى رئاسة الحكومة وحملت ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية.
وحاول باسيل في ظل التسوية الرئاسية إيجاد توازن بين مقتضياتها وبين رغبته في حجز موقع له من خلال قيامه بمحاولاتِ تَمايُزٍ في السياسة الخارجية. لكنه فشل في رأب الصدع مع العالم العربي. وهو الأمر الذي إستمر على ما هو عليه، عندما استقال ناصيف حتي من الحكومة وعُيِّن الوزير شربل وهبة وزيراً فكانت السَقْطَةُ الأخيرة فصلاً آخر من فصول «اللا ديبلوماسية».