كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
أكثر من يشعر بالنشوة مما لقيته رسالة رئيس الجمهورية ميشال عون الى مجلس النواب، هم خصوم الرئيس والتيار الوطني الحر. حيث جرت الرياح المجلسية بما لا تشتهي السفينة الرئاسية.
بدل أن تلقى تلك الرسالة جواباً من المجلس، جاءها اثنان وكلاهما مرّ وموجع سياسيا ومعنويا لأصحابها. الأول من الرئيس سعد الحريري ومضبطته العنيفة التي قدّم فيها رئيس الجمهورية كـ«محترف تعطيل». والثاني ممّا بدا انه تكليف ثانٍ وبالإجماع للحريري عبر موقف المجلس الصادر في ختام «جلسة الرسالة»، ودعاه فيه الى استكمال مهمته في تشكيل حكومة بالتفاهم مع رئيس الجمهورية.
لا يختلف اثنان على أن رسالة عون كانت قاسية على الحريري، لكنها جاءت كأفضل هدية تُقدّم له في الوقت الحرج على طبق رئاسي؛ حيث قلبت السحر على الساحر، وحصّنت الرئيس المكلّف بثقة نيابية جديدة نالها على طبق مستشارين محترفين في العبث السياسي وتدويخ البلد في لعبة الدهاليز السياسية المقفلة.
المشهد هزلي؛ خصوم الرئيس وفريقه السياسي شامتون، وبعضهم يتندّر شامتاً «اللي ما عندو هيك مستشارين يِشْتريهُن».. وبعض آخر يعتبر الرسالة «زلّة قلم»، أو «زلّة قدم» أو «دعسة ناقصة» ويقول: «هل من مزيد»؟.. وبعض ثالث كان اكثر سخرية بقوله: «لو أنّ طباخي الرسالة قبل صياغتها وإرسالها الى مجلس النواب، فكّروا مرّتين بالنصائح التي اسديت لهم، او استعانوا بقارئة فنجان عبد الحليم حافظ، لتقدير نتائج تلك الرسالة، لأحجموا عنها، ولكانوا جَنّبوا الرئاسة الاولى ارتكاب «فاول» في منطقة الجزاء السياسي، منحَ الحريري ركلة «بينالتي» سددها مباشرة في قلب مرمى الرئيس وصهر العهد، ويسجل هدفا قاتلا في الوقت الثمين، لتنتهي المباراة بنتيجة واحد صفر لصالح الرئيس المكلّف».
في موازاة مبالغات الخصوم التي قد لا تنتهي، ولغة الشماتة التي يقاربون بها ما آلت اليه الرسالة الرئاسية، يقفز الى سطح هذه المواجهة سؤالان:
– لا رسالة رئيس الجمهورية قدمت حلاً، ولا حرّكت مياه التأليف الراكدة، بل بالعكس عكّرتها، ولا رد الرئيس المكلف قدم حلا، كلاهما صبّا الزيت على نار العلاقة المشتعلة بينهما، فهل قُضي الامر، وأُعدمت امكانية تشكيل حكومة، وهل أن الشعرة الرفيعة التي كانت ما تزال تربط بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري قد قطعت نهائياً وصار التفاهم بينهما على حكومة ميؤوساً منه؟
– هل سيسلم رئيس الجمهورية وفريقه السياسي بخسارة هذه الجولة أمام الحريري، ام انه، اي الرئيس عون، صار مضطرا لأن يسعى الى جولة مواجهة ثانية لكي يعوّض تلك الخسارة او بالحد الادنى لكي يحقق التعادل مع الرئيس المكلّف؟
كل شيء وارد مع «القلوب المليانة»، وقد لا يطول الوقت ويبرز عنصر جديد يقود الرئيسين عون والحريري الى مواجهة جديدة. لكن ذلك لن يحقق لأيّ منهما النتيجة التي ترضيه، بل سيبقيهما، كما هي حالهما اليوم، في دوران في الحلقة المفرغة ذاتها، فلا عون قادر على ان يزيح الحريري وينتزع منه ورقة التكليف، ولا الحريري قادر على ان يزيح عون او يلزمه بتحريك قلم توقيع مراسيم حكومة كما يريدها.
معنى ذلك انّ كلا الرئيسين امام حائط مسدود، والقراءات السياسية الموضوعية لهذا الانسداد تُجمِع على انهما محرجان وخاسران وخسّرا معهما البلد. وبالتالي لم يعد امامهما سوى ان ينزل كل منهما عن نخلة التصعيد وسلوك مسار التنازل والتراجع والتفاهم، وفق القاعدة التي أكد عليها الرئيس نبيه بري وخلاصتها: «ان كلّ شيء يهون لأجل لبنان ومن اجل البلد صار واجباً على شريكَي التأليف ان ينزلا الحكومة عن شجرة الشروط المعطلة».
واضح ان الطرفين المتصارعين صارا محشورين في المنحى الذي سلكاه منذ تكليف الحريري تشكيل الحكومة، حيث لم يقدما سوى لغة التصادم والتصعيد بينهما، واستنفدا كلّ عناصر التوتير بينهما. ويفترض انه قد ثبت بالملموس لديهما ان لعبة تسجيل النقاط على بعضهما البعض – على ما حصل في جلسة الرسالة – صارت لعبة مَمجوجة، الربح فيها مؤقت بلا أي معنى، ولن يحقق للرابح ما يشتهيه، اذ انه ربحٌ خاسرٌ لن يؤدي في اي حال من الاحوال الى اي تغيير في صورة التكليف القائمة، ولا الى تغليب توجّه رئيس على رئيس. هذا ما يقوله الذين يشدون في اتجاه تشكيل الحكومة.
واذا كان الأمل ضعيفاً جداً، في ان يبادر اي من الرئيسين الى تنازل ما من تلقاء نفسه امام الآخر ربما حتى لا يفسّر هذا التنازل ضعفا امام الآخر، فإن جهات مسؤولة تعتبر ان الباب ما زال مفتوحا على امكان التقريب بينهما وحملهما على التنازل المتبادل وهذا ما سيحصل في نهاية المطاف. لأنه لم يعد امامهما سوى هذا السبيل، والصورة الصدامية التي ظهرت في جلسة الرئاسة، ينبغي ان تكون درسا للجميع يُدخل الرئيسين معا وفورا الى بيت طاعة البلد، ولتعتبر تلك الجلسة جلسة «فشة خلق»، وكل رئيس «فش خلقو» على طريقته، وبعد ذلك لا بد من قلب الصفحة.
ومن هنا، فإنّ العين في هذه الفترة هي على عين التينة، وما قد يقوم به الرئيس بري تتمة للمسعى التبريدي الذي قاده قبل «جلسة الرسالة» لضبطها وعدم انفلاتها الى ما لا تحمد عقباه.
ماذا في جعبة بري؟
عارفو الرئيس بري يدركون انه لا يؤمن بسياسة الابواب المقفلة، وله مقولة معبرة في هذا السياق، مفادها انه «في أيام الجفاف، لا أتوانى او أتأخر في أن احفر الجبل بإبرة حتى يطلع الماء». وحال لبنان كما يراه بري «يستوجب ذلك اكثر من اي وقت مضى، فلبنان في خطر وجودي، ويقف على فالق زلازل وكوارث قد لا تبقي منه شيئاً، ومسؤولية كل الاطراف أن ينظروا اليه من هذه الزاوية، وليس من زاوية المصالح والاهواء».
وعلى هذا الاساس، فإنّ بري في موقعه كنقطة تقاطع ووصل بين القوى السياسية، حدّد طريق النجاة عبر مبادرة أطلقها للنهوض بلبنان لتشكيل حكومة انقاذ واصلاحات، ترتكز اساساً على ان عامل التعطيل والتأخير «من عنديّاتنا». وهي مبادرة يبدو انها قطعت ثلاثة ارباع الطريق نحو الحل، حيث انها تحظى بشبه إجماع داخلي عليها، وبإجماع خارجي كامل، حيث يؤيدها الاميركيون، والفرنسيون يعتبرونها ملبية لمقولتهم الشهيرة «ساعدوا انفسكم لكي نساعدكم»، والمصريون باسم العرب، أقدموا على خطوة بالغة الدلالة، ورفعوا لواء مبادرة بري باعتبارها السبيل الوحيد المتاح لتعبيد الطريق الى تشكيل حكومة شراكة وإصلاحات تحرف المسار اللبناني عن الانهيار الى عودة النهوض والانتعاش.
على انّ نجاح مبادرة بري يبقى رهناً في ادراك اطراف الصراع القائم ان عمر لبنان دخل في عد تنازلي، وكل دقيقة تأخير في مدّه في الاوكسيجين الحكومي، تهدر من عمره ومن اعمار اللبنانيين. واما الشرط الاساس فهو ان تسود الواقعية والموضوعية وتغليب الشعور بالمسؤولية على المشاعر السياسية والشخصية. وللرئيس بري كلام واضح هنا مفاده «انّ الحقد والسياسة خطان متوازيان لا يلتقيان، لا يمكن ابداً ان نخلط الحقد بالسياسة، فإن اختلطا يؤديان الى كارثة، وفي حالة لبنان، اذا لم يستطع السياسي ان يضبط انفعالاته ومشاعره الشخصية، لا يخسر هو فقط، بل يخسر هو ويخسر البلد معه، وخسارة البلد بالتأكيد هي الاكبر».
يبقى السؤال ماذا لو لم يستجب لمبادرة بري؟ الجواب البديهي، هو الغرق من جديد في بحر من الارباك والتخبط، واحتقانات وتشنّج واشتباكات، وما قد يستتبع ذلك من اهتراء سياسي ومالي واقتصادي يسقط البلد بالضربة القاضية.