كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
تعاملت بعض القوى السياسية والوسائل الاعلامية مع رسالة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى البرلمان على قاعدة انّ ما قبلها غير ما بعدها، وانّها ستفجِّر انقساماً طائفياً، وتفتح باب التعديلات الدستورية، ولكن الرسالة تُلِيَت ونوقشت والأوضاع على حالها قبل الرسالة وبعدها.
يلجأ البعض إلى المبالغة السياسية في سياق تسجيل النقاط ضمن المواجهة القائمة، فيما يعيش البعض الآخر هاجس تعديل الطائف، ويعتبر انّ التحذير عمداً من توجّه من هذا القبيل، يقطع الطريق على هذا المنحى إن وجد. ولكن كل هذا الكلام يتناقض مع مسألة جوهرية، وهي انّه إذا لم يكن النقاش تحت سقف المؤسسات مطلباً وحاجة، فهل المطلوب نقله إلى الشارع؟ كما يتناسى هذا البعض واقعة تأكيد رئيس الجمهورية على التزامه بالطائف، عندما سأله وزير الخارجية المصري سامح شكري عمّا إذا كان لديه توجّهاً من هذا النوع، فغضب من الرئيس المكلّف وردّ عليه، ومن دون تجاهل أيضاً واقعة وزير الخارجية المتنحّي شربل وهبي، الذي لم ينجح عون بتغطيته تجنّباً لإغضاب الرياض. وبالتالي، تبعاً لما تقدّم، هل الجو هو مناخ تعديل الدستور؟ بالتأكيد كلا..
ومن الواضح، انّ رئيس الجمهورية أراد ان يلعب كل أوراقه الدستورية المتاحة، وموضوع الرسالة ليس جديداً، حيث انّ الكلام عن نيّته توجيهها قديم ويعود لأشهر خلت، وقد يكون أراد توقيتها بعد الرسالة التي وجّهها للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من أجل إعطاء الانطباع للخارج والداخل بأنّه يقوم بكل ما يمكنه القيام به، واضعاً المسؤولية والكرة في ملعب الرئيس المكلّف سعد الحريري، خصوصاً انّه عدّل في شكّل مخاطبة الحريري، من دعوته إلى الاعتذار إلى دعوته للتفاهم، ولكن مع الاحتفاظ بمضمون التوجُّه نفسه.
وهناك من يقول إنّ عون أراد تغيير تكتيك التعاطي مع الحريري، فيُظهر ليونة في الشكل وتشدّداً في المضمون. فيما البعض الآخر اعتبر انّ الهدف من الرسالتين إلى ماكرون والبرلمان، استبعاد اي عقوبات أوروبية وفرنسية تحديداً، بالقول انّه قام ويقوم بما يمليه عليه الدستور، إلّا انّ الرئيس المكلّف يرفض التعاون، وهذا ما دفع الحريري إلى رفع سقفه السياسي في البرلمان في جردة مفصّلة، الهدف منها إظهار انّ العهد يرفض التعاون معه منذ اللحظة الأولى، ويعمل باستمرار على طريقة إحراجه لإخراجه، وقد نجح مبدئياً في ردّ الكرة من حضنه إلى حضن العهد.
ولكن، ماذا بعد تسجيل النقاط المتبادلة بين عون والحريري؟ وماذا بعد جلسة الرسالة الرئاسية إلى البرلمان؟ وكيف يمكن الخروج من مأزق عدم التأليف في الوقت الذي يتواصل فيه الانهيار فصولاً؟ وهل الفراغ سيبقى فعلاً حتى الانتخابات النيابية المقبلة؟
وتبرز في هذا السياق ثلاث وجهات نظر أساسية:
الوجهة الأولى تقول باستحالة التعاون بين عون والحريري، وانّ المكتوب يُقرأ من عنوانه، وانّ مواجهات التأليف ستنسحب على أعمال الحكومة، وانّ التعاون لا يتمّ بالفرض والإكراه، وانّ الخلاف بينهما يتغطى بأشكال دستورية، ولكنه خلاف من طبيعة شخصية، بدليل تعاونهما وتحالفهما وزواجهما في الحكومتين الأولى والثانية. فهل في هذه اللحظة تنبّه الحريري إلى سلطوية عون؟ وبالتالي، في حال لم يكن باستطاعة الحريري الانسجام مع عون عليه الاعتذار، خصوصاً انّ البلد بحاجة لحكومة أمس قبل اليوم.
الوجهة الثانية تعتبر انّ التعاون والشراكة والانسجام ليست مسألة شخصية ومزاجية، فإدارة البلد تختلف عن إدارة العلاقات الشخصية والعائلية، حيث انّ التعاون تفرضه المصلحة الوطنية العليا والدستور وموجبات الشراكة، فلا يستطيع هذا الرئيس ان يرفض التعاون مع ذاك الرئيس لأنّه غير معجب بطباعه مثلاً، إنما يجب ان يتفقا على مسألتين أساسيتين: ما يقوله الدستور، وخدمة البلد والناس. ومن ثم لا يمكن للفريق السياسي الذي استند في وصوله إلى رئاسة الجمهورية إلى ركيزة الحيثية التمثيلية، ان يرفض التعاون مع الحيثية نفسها في موقع رئاسة الحكومة، والذي يحظى بمشروعية سنّية، فضلاً عن أكثرية نيابية قامت بتكليفه، وبالتالي المسألة ليست مزاجية إنما دستورية وميثاقية.
الوجهة الثالثة ترى انّ الحكومة لن تبصر النور ما لم تتجدّد التسوية بين الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لثلاثة أسباب أساسية: لأنّ باسيل من سيتابع جدول الأعمال مع الحريري، على غرار ما كان يفعله في حكومتي الحريري الأولى والثانية من العهد، ويدخل في تفاصيل كل بند من بنوده، والحريري يدرك ذلك جيدا؛ لأنّ الحكومة العتيدة ستكون الحكومة الأخيرة للعهد الذي لن يتهاون بنفوذه وسلطته إن في المرحلة المتبقية من الولاية، أو في مرحلة الفراغ الذي قد يطول، ولن يقبل العهد بأن يترك كل نفوذه مع انتهاء ولايته، إنما يريد ان يشكّل الفراغ استمراراً لسلطته وتهيئة للانتخابات الرئاسية المقبلة؛ لأنّ باسيل لن يقبل برئيس حكومة كان حليفاً وشريكاً له وأصبح حليفاً وشريكاً لرئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، وأعاد إحياء تحالفه مع الرئيس نبيه بري، والذي قد يعود وينضمّ إليه رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط في اي لحظة، وفي ظلّ إصرار «حزب الله» على الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين، وبالتالي يكون كمن يسهِّل وصول رئيس حكومة سيستخدم موقعه ونفوذه وتحالفاته لإيصال خصمه الرئاسي، الأمر الذي لا يمكن ان يقبل به.
وقد كان جنبلاط واضحاً جداً في إطلالته الأخيرة، التي اعتبر فيها انّ العقدة الأساسية تكمن في العلاقة بين الحريري وباسيل، ومحمّلا الأوّل مسؤولية رفضه التفاهم مع الثاني. ويُقال انّ جنبلاط يعكس وجهة النظر الفرنسية والروسية بضرورة التفاهم بين الرجلين.
وما بعد الجلسة-الرسالة سيكون كما قبلها، أي المراوحة ضمن دائرة الفراغ نفسها، ومن الصعوبة بمكان اختراق جدار الفراغ سوى في حالتين: اعتذار الحريري او تفاهمه مع باسيل، وما لم يحصل ذلك فإنّ الفراغ سيتواصل فصولًا حتى نهاية العهد، خصوصاً انّ كل وساطات الداخل ومبادرات الخارج اصطدمت بحائط الممانعة العونية- الحريرية نفسه، ولكن قد يكون هناك فرصة للخروج من هذا الفراغ عن طريق الآتي:
يشكّل الاتفاق على حكومة انتخابات مخرجاً من الفراغ ومخرجاً للحريري أيضاً، فلا يكون اعتذاره تراجعاً أمام باسيل، إنما لأنّ التأخير في التأليف فرض ان تكون الحكومة العتيدة حكومة انتخابات لا إصلاحات، وهذا لا يمنعها إطلاقاً من ان تأخذ الجانبين الإصلاحي والتحضير للانتخابات على عاتقها، ولكن بما انّ العدّ العكسي للانتخابات قد بدأ وانطلق، وتحت عنوان انّ حكومة حيادية لا مرشحين فيها من رأسها إلى جميع أعضائها تشكّل الخيار الأفضل والأنجع، وان يكون للحريري الكلمة الفصل في اختيار رئيسه، فيكون «بيت الوسط» معبراً للسرايا الحكومية، فضلاً عن انّه ما بين تشكيلها ونيلها الثقة تكون الأجواء الانتخابية بدأت تطغى على أي شيء آخر في البلد. وبالتالي، انطلاقاً من كل هذه العوامل، فهل تشكّل حكومة الانتخابات مخرجاً من المأزق الحكومي؟