IMLebanon

متلازمة ستوكهولم السوريّة

كتب د.مصطفى علوش في “الجمهورية”:

“سخرتَ بأنّات شعبٍ ضعيف وكفك مَخضوبة من دماه

وصرت تشوّه سحر الوجود وتبذر شوك الأسى في رباه”

(أبو القاسم الشابي)

صديق لي، سليل أحد الإقطاعيين العلويين الكبار في سوريا، كان دائماً يصرّح أنه من معارضي حكم عائلة الأسد، وعندما استفسرت منه متعجباً موقفه قال لي في شرح طويل ما خلاصته: «إسمع يا عزيزي، إنّ حياة المجموعات لا يمكن أن تختصر بفترة قصيرة من الزمن، فقد تكون المكاسب التي تحصلها على المدى القصير من حكم ومال ما هي إلّا نقمة على المدى الطويل. إن هذا الواقع يصبح مؤكداً عندما تكون المجموعة أقلية من الناحية السكانية، تَحيّنت الظروف لتصبح في موقع الحاكم للأكثرية، والأسوأ هو عندما تلجأ هذه الأقلية الى العنف والإكراه للاستمرار في موقع السلطة. ونحن طائفة علوية عانينا مثل كثير من الأقليات في العالم في تاريخنا من قِبَل الأكثريات ومن أقليات أخرى منافسة. بالمحصّلة، فإنه لا يمكن في العصر الحديث علاج أو تفادي هذه المعاناة من خلال فرضها على الآخرين لأن هذا الحل في أحسن الحالات قصير الأمد وغالباً ما يؤدي الى كوارث عند انقلاب الأمور. الحل يكون من خلال تجربة الدول الديموقراطية في العالم الغربي التي أكدت إمكانية تساوي الجميع في ظل منطق المواطنة. أما ما حدث في سوريا منذ قدوم حزب «البعث» الى السلطة سنة 1963، فقد حرمنا نحن النخَب العلوية من القيادة في ظل الكارثة التي سميت الإصلاح الزراعي والتأميم، فاتحاً المجال لتسَلل نوع جديد وحاقد من العلويين ليصل الى السلطة. إنّ حكم حزب «البعث» ومن بعده حكم عائلة الأسد، أدّيا الى حرمان سوريا من إمكانية التطوّر الطبيعي نحو الديموقراطية والمواطنة، وبالتالي إرساء الوقائع التي قد تؤدي الى المساواة والتفهّم بين فئات الشعب السوري في ظل مبدأ التعددية الدينية.

لكن، في الواقع، فقد حدث عكس ذلك تماماً، فقد أدت الممارسات المتوحشة لنظام عائلة الأسد المتمثلة في القمع الديني الذي شهدناه في الثمانينات، والمجازر الطائفية التي مارسها النظام في حماه سنة 1982، الى ازدياد الوعي المذهبي وتعاظم الحقد الأعمى المبني على الاختلاف في المعتقد. في هذا العهد زادت الأحقاد على الطائفة العلوية من خلال استعلاء بعض أفرادها على الآخرين عبر إقدام البعض على تفريغ حقدهم الأقلوي من خلال ممارسات تعسفية وكيدية أمنياً واقتصادياً وسياسياً.

قد يظنّ البعض أن حافظ الأسد كان علوياً ملتزماً أو متعصّباً لعقيدته، ولكن الواقع هو أن هذا الرجل كان يسعى فقط الى السلطة ولم يتورّع عن التخلّي عن كل الممارسات والشعائر العلوية التقليدية لإيهام الجميع بأنه سني أحياناً، وعندما لم يتقبّله السنّة حاول نشر العقيدة الشيعية بين العلويين من خلال السيد حسن الشيرازي الذي تبعه العشرات من مشايخ العلويين في سوريا ولبنان تحت رعاية حافظ الأسد. والحقيقة هي أنه حاول جاهداً طمس الثقافة الإيمانية العلوية فقط ليستجدي المشروعية لسلطته.

وقد يخال للبعض أننا تمكنّا من تحقيق مكاسب اقتصادية كبرى من خلال هذا الحكم، ولكن من يجول الآن في سوريا على التجمعات العلوية يمكنه أن يلاحظ بوضوح مظاهر الفقر التي ما زالت مسيطرة على أكثر هذه التجمعات، أما الثروات المجنية من خلال الفساد فقد بقيت محصورة في عائلة الأسد وتوابعها، وفي مجموعة المتزلفين الفاسدين من مختلف الطوائف.

ومن ضمن فقراء طائفتنا انطلقت ظاهرة الشبّيحة أبناء أخ حافظ الأسد الذين جمعوا حولهم الآلاف من العاطلين عن العمل والأميين والفاشلين والانتهازيين وأصحاب السوابق، ومَكّنوهم من ممارسة كل أنواع الأعمال الخارجة عن القانون من تهريب وتزوير وابتزاز وأعمال بلطجة واعتداءات حَولّت مدينة اللاذقية، التي كانت يوماً عاصمة للدولة العلوية، مرتعاً للخارجين عن القانون بحيث أصبح من المستحيل على أي فتاة، لأي طائفة انتمت، أن تمر في الشارع من دون أن يتم الاعتداء عليها عملياً أو معنوياً. بالمحصلة، فإننا سندفع عاجلاً أم آجلاً، وبشكل جماعي، ثمن المآسي التي تسبب بها حكم الأسد. يومها لن يكون ممكناً للسنّي الغاضب والساعي للانتقام أن يفرّق بيني وبين أي شبّيح لمجرد أننا علويان. أفهمت الآن لماذا أنا معارض للنظام في سوريا. في كل الحالات فإنّ الأمل لا يزال قائماً في حال سعى أحدهم في هذا النظام الى تحوّل هادئ نحو مزيد من الانفتاح والحرية وقَبِلَ بانتخابات قد تؤدي الى خروجه من السلطة من خلال الاحتكام الى الديموقراطية، ولكن هذا سيحتاج حتماً الى معجزة حقيقية».

إنتهى الاقتباس من كلام صديقي، ولكن لماذا هذا الكلام الآن؟! لأن تكرار مظاهر الاحتفال ببشار الأسد في بعل محسن يقوم بها فقراء حَوّل بعضهم نظام الأسد شبّيحة في استفزاز لفقراء بآخرين في باب التبانة يُنذر بتحقيق نبوءة صديقي. لقد زرع هذا النظام، وعن قصد، كثيراً من الأحقاد الدامية بين أبناء منطقة كانوا في الماضي يطالبون معاً بالعدالة الاجتماعية وبفرَص العمل ولو كعمال تنظيفات. إنّ هذا النظام للأسف سيستمر في استخدام الطائفة العلوية أينما وجدت متراساً وضحية لمشاريع تمسّكه بالسلطة.

في الماضي كنت أظن أنّ هذا التوصيف ينطبق فقط على العلويين، لكن بعد مشاهدة آلاف السوريين «اللاجئين» يتجمهرون لتجديد البيعة لخاطفهم، تأكدت أنّ متلازمة ستوكهولم تتخطى منطق الطائفية.