Site icon IMLebanon

هل تخرج النقابات من سيطرة أحزاب السلطة وتقود التغيير؟

كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:

أوقف وباء كورونا الكثير من الاستحقاقات في لبنان، ومنها الانتخابات النقابية التي تعطلت عجلتها وتأجل تنظيمها، وقد عادت عجلة الانتخابات النقابية للتحرّك لتبرز تحديات جديدة مختلفة هذه المرة، لأن الاستحقاق الانتخابي الراهن هو الأول منذ الانهيار المالي والاقتصادي في البلد، وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام طرح التساؤلات عن الموقف داخل النقابات واتجاهات التغيير ربطاً بالواقع الاقتصادي المستجد.

وبينما تتفاقم الأزمة الاقتصادية وتلقي بأثقالها على مختلف نواحي الحياة، يجد المرشحون النقابيون صعوبات واضحة في التأقلم مع هذا الواقع، وفي صياغة رؤية وخطاب يستجيبان لهذا التحدي الذي يفرض نفسه، ويشكِّل عامل تأثير كبيراً في مستقبل المهن الحرة، وفي استمرارية النقابات نفسها.

ما هو الدور الذي تستطيع النقابات أن تلعبه في استيعاب تداعيات الأزمة والتوصل إلى سياسات توجد المخارج المطلوبة، وتحتاج إلى تفكير متحرِّر من كلّ الحسابات التقليدية، السياسية أو المهنية، أو ما يمكن أن نسميه التفكير «خارج الصندوق»؟

المصارحة والجرأة في تقدير الموقف

العنصر الأول في مقاربة هذا الواقع هو الجرأة في التفكير وفي التقرير، والمصارحة مع النخب المنتسبة إلى هذه النقابات بأهمية وضرورة الإقرار بتداعيات الأزمة ونتائجها على حياتهم اليومية، والتخلّي عن التجاهل والمكابرة والإقلاع عن التمسّك بالشكليات.

العنصر الثاني، هو أن المقاربات التي كانت تحكم العمل النقابي قبل الأزمة، لم تعد تصلح للوقت الراهن، وبالتالي، فإن أدوار النقابات ينبغي أن تتوجه نحو أفكار التنمية الأوسع من العمل الفردي، لتأمين فرص عمل لمنتسبيها، سواء كان ذلك في المهن التقليدية، أو في المهن الحديثة نسبياً، أو تلك المطوّرة في الاختصاصات العلمية أو البيئية أو الزراعية والصناعية.

التحرّر من أحزاب السلطة وتأسيس تيارات التغيير

التحرّر الكامل من السطوة السياسية، فاستمرار النخب النقابية في إبداء الولاء لقوى سياسية أوصل معظمها البلد إلى الكارثة التي وصل إليها، يشكل ارتكاساً غير مفهوم عن الوعي الطبيعي بحقيقة الأحداث، فأكثر هذه الأحزاب والتيارات، دأبت على استغلال العمل النقابي لغاياتها السياسية، ونادراً ما شهدنا جهوداً لحزب من الأحزاب في إيلاء العمل النقابي حقّه من الرعاية والوصول إلى الحقوق.

الإشكالية هنا أنّ التبعية السياسية في هذه المرحلة تعني إصراراً ممن يفترض أنّهم نخب المجتمع، على التبعية وشطب الوعي، والانجرار وراء اصطفافات سبق أن جرّبها الجميع وانتهت إلى الكارثة الراهنة. فأيّ فائدة ترتجى من اتّباع أحزاب وصلت إلى الحكم وكانت أحد «شركاء التفليسة» في البلد!

إنّ اتجاه الحركة ينبغي أن يكون معاكِساً. أي أن تتجه هذه النخب إلى إنشاء أحزاب جديدة متحرِّرة من كل عوامل الترهّل والفساد، ومن الاستغلال الأجوف للخطاب الطائفي، ومن الزبائنية المدمّرة للدولة، ومن وسائل الاستقطاب القائمة على الطرق الاحتيالية والوسائل الالتفافية، والتي تركز على الوصول إلى لحظة الاقتراع، وتضييع حق الناس في التفكير والتغيير من خلال الانتخابات.

المخارج المتاحة: توسيع التعاون في مشاريع متنوعة التمويل

من الناحية المهنية البحتة، فإن العقول النقابية، ينبغي أن تخرج من كسلها واعتباراتها الفوقية السائدة لدى شريحة من النقابيين، وأن تبدأ مرحلة استيعاب الصدمة والبدء باستعادة التوازن والبحث عن المخارج.

من الاعتبارات الهامة المطلوبة في هذه المرحلة، أن يفكر الجميع في آفاق أخرى مختلفة للعمل، فالاختصاصات التقليدية القائمة، ربما تحتاج وقتاً طويلاً لتستعيد عافيتها، وهذا يفرض البحث عن البدائل، وأهمّ ملامح هذا البديل هو التوجه التعاوني وتوسيع دائرة التعاون مع الجهات الدولية المانحة.

غرفة طرابلس: النموذج الناجح في التأقلم الفعّال

يعتبر نموذج غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس والشمال، النموذج الأقرب للتوضيح عن مقاصد هذه الرؤية. فالغرفة استطاعت التوسع بمشاريع نوعية ضخمة، مثل المختبرات التي تغطي الجوانب الزراعية والصناعية بكفاءة توازي المختبرات الأجنبية، وتحظى بشهادة كل المرجعيات العلمية المختصة، كما أنّها وقعت مع الجهات المانحة، الأميركية والأوروبية مشاريع لا تصبّ في خدمة منتسبيها فقط، بل تقدّم خدمات نوعية للدولة والمجتمع، وهي تغطي أعمال القطاعات الاقتصادية المتنوعة.

أفق آخر في التنمية والدور النقابي

من هنا مثلاً، يمكن لنقابة المهندسين أن تتفاوض مع الجهات المانحة في إقامة مشاريع زراعية، ينخرط فيها المهندسون الزراعيون مع المستثمرين في القطاع الزراعي ومع أصحاب الأراضي، تتمتع بالجدوى الاقتصادية وبمقوِّمات الاستمرار، والزراعة في ظلّ هذه الأزمة، أحد عوامل الصمود الاجتماعي التي تحظى باهتمام الكثير من الجهات المانحة.

الأمر نفسه ينطبق على مجال الطاقة البديلة والعديد من المجالات الصناعية، وتحديداً الصناعات الغذائية، ويمكن تعميمه على مجمل قطاعات الإنتاج الحيوية، التي من شأنها أن تحرّك السوق وتوفر فرص العمل، وإن بطرق ووسائل مختلفة عمّا كان عليه الحال قبل دخولنا إلى «جهنّم»!

تعاني النقابات مثل غيرها من الأجسام التنظيمية حالات ترهّل واضح، وتزداد المسافات الفاصلة بين من يصلون إلى المجالس النقابية، وبين قاعدتهم الناخبة، التي يبتعد قسم كبير منها عن الاهتمام بشؤونها، فيضطر المرشحون إلى تسديد قيمة الاشتراك السنوي اللازم لنيل الحق بالاقتراع، كوسيلة استقطاب آنية، يجدها المنتسبون فرصة لإعادة حضورهم الشخصي في هذه النقابات.

لكنّ المشكلة اليوم أعمق وأكبر، بعد أن طغى الانهيار على الحياة اليومية للناس، وبات أعضاء النقابات مصابين بالكارثة المالية، وهذا يجعل من الصعب إقناعهم  بجدوى الانخراط في النشاط النقابي، نظراً لانسداد الأفق وعدم وجود ما يوحي بإمكانية تأثير النقابات إيجاباً في مواجهة الأزمة الراهنة.

آفاق ومستلزمات تخطي الأزمة

إنّ أيّ مجلس نقابي منتخب بعد الأزمة والانهيار، لا يضع نُصب عينيه الاتجاه نحو التأقلم والتطوير انطلاقاً من برنامج يقدّم رؤية للمساهمة في الخروج من المأزق الراهن، سيكون مجلساً صورياً لا طعم له ولا نكهة، بينما يقف النقابيون أمام فرصة لتجديد الأدوار والوظائف والمهمات العملية والاجتماعية، إذا أحسنوا تقديم المقاربات الجريئة وأعملوا علمهم وخبراتهم في سبيل تحقيق الأهداف المرجوّة.

هناك قاعدة ملزِمة لتخطّي الأزمة على المستوى النقابي، وهي تلازم الفائدة الاجتماعية مع أي وسيلة للخروج من حالة التردّي القائمة، وهذا يفتح الباب أمام تعديل وتطوير عمل النقابات ذات الطابع الإنساني، مثل نقابة الأطباء والصيادلة، ويشمل طبعاً المهندسين والمحامين وغيرهم.

شهدت نقابة الأطباء في طرابلس والشمال انتخابات أوصلت مجلساً جديداً، وتستعدّ نقابة المهندسين لانتخاب مجلسها الجديد، حيث يبرز ثلاثة مرشحين، هم المهندسون: فؤاد ضاهر (نقيب سابق) بهاء حرب، وطوني فغالي، وبينما يبدو حرب واقفاً في المسافة الأقرب من الكتل التي تتوزع فيها أصوات المهندسين، يبدو أنّه الأكثر اهتماماً بمقاربة تداعيات الأزمة والانهيار على حياة المهندسين وواقعهم المهني والمعيشي، وإن كان هذا لا يكفي للوصول إلى نقطة حاسمة في الطريق إلى أداءٍ نقابيّ يستجيب للتحديات.

الأيام المقبلة كفيلة بتبيان مدى استعداد المهندسين للتقدّم نحو أفق جديد في قلب الأزمة، والخروج من المراوحة والتحسّر على مصاب أليم، طالت شظاياه أكثرية اللبنانيين.