ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عوده خدمة قداس أحد السامريَّة في كاتدرائية القديس جاورجيوس، وقال: “حاولنا مرارا وتكرارا، حبا بهم وبوطننا، لفت نظر المسؤولين إلى مواطن الخلل في حياتنا ومسيرة وطننا ولكن كما يقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي”.
وأضاف: “للأسف، لهم عيون ولا تبصر ولهم آذان ولا تسمع. لو شكلوا حكومة اتخذت الإجراءات الضرورية منذ مدة لما وصلنا إلى هذا القعر”.
وجاء في العظة:
يا أحبة، سمعنا اليوم عن لقاء الرب يسوع بالمرأة السامرية، التي خصصت لها كنيستنا المقدسة تذكارا في الأحد الثالث بعد الفصح.
إن الماء الذي طلبته السامرية هو الروح القدس. في حواره معها، كشف لها المسيح تدريجيا عطية الله. إلتقاها عند بئر يعقوب حيث جلس ليرتاح من السير، فطلب منها ماء قائلا: «أعطيني لأشرب». إبن الله المتجسد، الإنسان التام، حمل على عاتقه شقاء الإنسان الفاني، فكان يتعب ويجوع ويعطش، كما بكى على صديقه لعازر الرباعي الأيام. لقد سمح للطبيعة البشرية أن تعمل فيه وتظهر خواصها، وطبعا لم يقو عليه لا الجوع ولا العطش أو الحزن، كما أن هذه الخواص لم تفرض عليه حكما، بل أراد المسيح بنفسه أن يعطش ويجوع ويبكي لأنه هو «المحبة». المسيح-المحبة تنازل وأخلى ذاته واتخذ جسدنا، وباتحاده بطبيعتنا، حمل الرب كل خواصها وأحزانها على عاتقه.
الأقوى من الجوع والعطش هو حوار الرب مع تلاميذه بعدما غادرت السامرية إلى المدينة لتخبر أبناء بلدها عن الإعلان الذي نالته. كان المسيح قد سألها ماء، لكن السامرية، المعروفة في تقليدنا باسم «المعظمة في الشهيدات فوتيني»، نسيت أن تعطيه الماء إثر النقاش، لا بل تركت جرتها وسارعت إلى المدينة. حينئذ، طلب التلاميذ من معلمهم، الرب يسوع المسيح، أن يأكل، فأجابهم: «لي طعام آكله لا تعرفونه أنتم». وتابع: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأن أتمم عمله».
إن إحدى الحقائق المهمة التي يكشفها لنا لقاء المسيح بالسامرية، هو الترابط بين طريقة الحياة والإيمان. فالمؤمن الحقيقي يعبر عن إيمانه من خلال حياته. إذا توقفنا عند نقاط محددة من حوار المسيح مع السامرية، نجد أن المسيح طلب منها ماء، فذكرته هي بعدم جواز مخالطة اليهود للسامريين. اليهود مؤمنون بالناموس، والسامريون مرتدون عنه. لما وجد المسيح نفسه إزاء أرض خصبة، بدأ يلقي بذار كلمته. شرع يحدث السامرية عن الماء الذي يستطيع أن يمنحها إياه، والذي إن شربت منه لن تعطش أبدا. هكذا، إرتقى بذهنها من مياه البئر إلى نعمة الروح القدس.
لم تفهم السامرية كلام الرب يسوع، فقالت له: «لا دلو عندك والبئر عميقة، فمن أين لك الماء الحي؟». لكنها، عندما وصف لها المسيح قوة هذا الماء الذي لا ينضب، أظهرت ميلا إلى ما يخدم مصلحتها فقالت: «يا رب أعطني هذا الماء لكي لا أعطش فأعود إلى الاستقاء من هنا». أمام هذا الطلب، حول المسيح مجرى الحديث إلى حياتها الشخصية قائلا: «إدعي رجلك». هنا بدأ الكشف العظيم. فلكي تعطى نعمة الروح القدس، وجب كشف النقاب عن حياتها الشخصية بأعماقها المظلمة الآثمة. كان عليها أن تعترف للمسيح بخطيئتها. إلى جانب عظمة شخصية المرأة السامرية، برزت عندها ميزة الصدق والإعتراف الحقيقي. هي لم تعترض بحدة، ولا قالت للمسيح إنه لا يحق له أن يتدخل في حياتها الشخصية، كما لم تحاول أن تتخفى أو أن تبرر نفسها. لم يغضبها تأنيب المسيح لشخصها، ولا حطمها أو أوصلها إلى اليأس من حالها الخاطئة، إنما أشعل في نفسها العطش إلى توسيع المعرفة. إتجه اهتمامها إلى الصلاة والعبادة الحقيقية فقالت: «يا رب أرى أنك نبي. لقد تعبد آباؤنا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن المكان الذي يجب فيه التعبد هو في أورشليم». يشير هذا الإستدراك إلى أن السامرية خبأت خلف معاصيها تطلعا صادق السعي نحو الأمور السامية، إضافة إلى نقاوة لا توصف. لم تستوقفها عزة نفسها، إذ كان همها أن تجد الحياة الحقيقية، وتعبد الله عبادة حقيقية. هكذا أصبحت أول من سمع أن الله روح، وأن العبادة الحقيقية لله تصير «بالروح والحق»، أي بالمسيح الذي هو الحق، وبالروح القدس. إذا، أعلن لها المسيح عن الثالوث القدوس وكيفية معرفته. نحن نعرف الله بالمسيح، في جسده الحقيقي، أي الكنيسة، بنعمة الروح القدس.
أحبائي، الحياة في المسيح تعني الحياة في الكنيسة، وهي تدور حول محورين: الإشتراك بالأسرار، وحفظ الوصايا الإنجيلية. الحياة الكنسية لا تفهم من دون المشاركة في الأسرار، وحفظ الوصايا يجعلنا قادرين على قبول نعمة الأسرار الإلهية، وهذا كله يقتضي إيمانا قويما، أي إيمانا يولد شعورا صاعقا بالخطيئة الشخصية والإبتعاد عن الله. إن خبرة التوبة الحقيقية هي جوع وعطش إلى الصلاة، واتضاع الفكر، والرغبة في تعلم الطريقة الفضلى لعبادة الله بالحق. السامرية تميزت بهذه الأمور، أما نحن فعلينا أن نتشدد بربط حياتنا بالإيمان، والعقيدة بالأخلاق. كثيرون ينشغلون بالعقائد بشكل عقلاني فقط، ولا يكترثون لضرورة تنقية القلب والإستنارة بالروح القدس. يستخدمون الإيمان الحق، وأقوال الآباء القديسين فقط لكي يدينوا الآخر، عوض أن يقرنوا الإيمان والعقيدة بالمحبة الحقيقية، مثلما فعل الرب يسوع، الآتي من شعب اليهود، مع السامرية. لم يكن يحق لهما الإختلاط، لكن الرب أظهر المحبة الأقوى من كل الصعاب.
لقد دلتنا المرأة السامرية إلى كيفية الإستنارة والعبور من المعصية إلى الإيمان الحقيقي، والعبادة الحقيقية للثالوث القدوس. لذلك علينا أن نتعلم منها كيف نتضع ونقبل كل نقد بناء يوجه إلينا لمنفعتنا، بدلا من الإنتفاض وكيل الإتهامات والشتائم لمن يحاول مساعدتنا.
يا أحبة، التواضع فضيلة الفضائل، وحسن الإصغاء أيضا فضيلة. ما ينقص معظم اللبنانيين، والمسؤولين بخاصة، هو التواضع العميق، تواضع القلب والفكر، والإصغاء إلى النقد قبل المديح.
لقد حاولنا مرارا وتكرارا، حبا بهم وبوطننا، لفت نظرهم إلى مواطن الخلل في حياتنا ومسيرة وطننا ولكن كما يقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
للأسف، لهم عيون ولا تبصر ولهم آذان ولا تسمع. لو شكلوا حكومة اتخذت الإجراءات الضرورية منذ مدة لما وصلنا إلى هذا القعر. لو حولوا شعاراتهم إلى حقائق، وطبقوا ما ينادون به من محاربة الفساد، والتدقيق الجنائي، وحفظ حقوق المواطنين، والتخلص من الطائفية، وغيرها من الشعارات، لما انهار البلد ويئس المواطن. فالمؤسسات الوطنية إقطاعيات للطوائف، والوزارات حكر على أحزاب، والنزاعات الطائفية ازدادت، والمظاهر المسلحة والسلاح المتفلت والإستعراضات الاستفزازية لا تجد من يقمعها، والفساد ما زال مسيطرا على النفوس والإدارات، والإحتكار تفاقم، والغلاء استفحل، والمحروقات ندرت لأنها تهرب أكثر فأكثر، وأزمة النفايات لم تحل، أما الكهرباء فعوض أن تكون من بديهيات الحياة أصبحت كالبدر تفتقد، لأن الهدر زاد عوض معالجته، والجباية تكاد تكون متوقفة وهي مصدر التمويل الأساسي لمؤسسة الكهرباء، وقد سمعنا عن مليارات متراكمة لم تحاول إدارة الكهرباء حتى المطالبة بها، كما لم تحاول توقيف التعديات على الشبكة ومعاقبة الفاعلين، أو وقف الهدر والسرقة، وجباية المستحقات واستيفاء الديون أو وضع برنامج واضح لصيانة المعامل وزيادة الإنتاج وغيرها من الأمور التي تساهم في تأمين الكهرباء للبنانيين. اللبناني لم يعد يصدق أن الدولة لم تكن قادرة على إيجاد الحلول لمشكلة الكهرباء طيلة عقود. أي لغز هو لغز الكهرباء؟ هل هي مهمة مستحيلة أم أن هناك سببا آخر نجهله؟ أين التخطيط والإستشراف؟ أين الإدارة الرشيدة؟ وهل يعاقب الشعب بأكمله بسبب بعض الفاسدين والمعرقلين والسماسرة؟ هل على المواطن أن يبقى ضحية الضغينة والحقد والنكايات، أو قصر النظر والإستهتار وعدم التخطيط، وأن يتأقلم مع كل الأوضاع حتى وإن كانت على حساب راحته وكرامته؟ وهل يوجد في القرن الحادي والعشرين بلد يعيش في الظلمة، ويتكل على المولدات الخاصة، عوض بناء معامل الإنتاج، وحتى إنتاج الطاقة البديلة النظيفة؟ أين حاملو لواء محاربة الفساد؟ أين المحاسبة؟
نحن بحاجة إلى محاسبة كل فاسد أو مقصر أو متعد. من هنا يبدأ الإصلاح. وقد أصبح ضروريا لأن حياة اللبنانيين أصبحت في خطر. حتى الأدوية لم تعد موجودة، ومرضى السرطان يعانون، كما تعاني المستشفيات من نقص حاد في المستلزمات الطبية والأدوية وكل ما تستعمله في المختبرات وغرف العمليات. لم يعد بمقدور المستشفيات أن تقوم بواجبها تجاه المواطنين الذين سرقت أموالهم، واستنزفت ودائعهم في دعم سلع تهرب أو تحتكر، ودولتهم عاجزة عن دعم ما هو أساسي لصحتهم، أعني الأدوية والكواشف المخبرية وغيرها من المستلزمات الطبية. أين كان المسؤولون عندما استبيحت خيرات لبنان وأموال اللبنانيين هدرا وسرقة وفسادا؟ وهل صحة اللبنانيين سلعة أو ورقة مساومة؟
بئس ما وصلنا إليه. والآن يعدون المواطنين ببطاقة تمويلية أخشى أن تصرف مما تبقى من ودائعهم، فنكون كمن يلحس المبرد ويتلذذ بطعم دمه، كما أخشى أن تشكل رشوة انتخابية يستعملها السياسيون لغاياتهم.
دعاؤنا أن يرأف الله بنا وأن يلهمنا الصبر وطول الأناة، وأن يضع في قلوب من يتولون أمرنا المحبة والتواضع والرحمة، ويمنحهم صحوة الضمير وبعد النظر وحسن التخطيط وخاصة حسن الإصغاء.