كتب أحمد الزعبي في “اللواء”:
بين هبّة ساخنة وأخرى باردة تتنقل أحوال تأليف الحكومة العتيدة. فجأة، وبسحر ساحر، تتوقف السجالات والطلبات والاشتراطات، ويبشّر سُعاةُ الخير بقرب الولادة. وفجأة أخرى، وبتعطيل مُعطّل، تُخلط الأوراق، وتتضخّم الطلبات، ويكثر الطبّاخون، ويتعثر كل شيء، وفي الخلاصة، لا مؤشرات أو معطيات إيجابية ولا من يحزنون.
بعد أكثر من سبعة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، ومن تشغيل محركات وإطفاء أخرى، ومن الاتصالات واللقاءات والمشاورات و«التضحيات» و«التنازلات».. ومهزلة «إملأ الفراغ بالاسم المناسب»، وإرسال التشكيلات عبر الوسطاء والمرجعيات والدرّاجين.. الواقع أن لا جديد سوى الإمعان بتخطي الدستور، وتقاذف تُهم التعطيل، وترسيخ المحاصصة، وتغيير طبيعة النظام، إلى جانب استمرار حال الإنكار والانفصال والمراوحة والضبابية والاشتراطات المتبادلة وتضخيم الأحجام والأوزان، حتى بتنا مقتنعين بما يريد هذا العهد النحس إقناعنا به، وهو أن تشكيل الحكومة غايةٌ بحدّ ذاتها، وليسَ وسيلةً لإدارة الشأن العام، ومواجهة التحديات، وحلّ الأزمات، وفكّ العزُلة التي تسبّبَ بتوريط البلد والشعب فيها، والايحاء زوراً بأن هناك موادَ في الدستور تنصّ على أن هذه الوزارة أو تلك ملكٌ حصريّ لهذا التيار أو المذهب أو هذه المرجعيّة أو ذلك الزعيم.
في خلاصة ما جرى ويجري أن كلّ طرف يقول ما عنده من هرطقات وشروط و«اجتهادات»، والنتيجة أن لا شيء تغير، ولا حكومة تشكّلت.. وإن حصل وشُكّلت فستكونُ حكومةَ تسوية بين شركاء متضامنين، وليس حكومةَ انتشال لبنان من قعر الهاوية التي يرزح فيها، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا محروقات، وحيث الودائع منهوبة، والخدمات معدومة، وشبح الجوع يهيمن.
كيف يتأخر تشكيل حكومة بسبب «حصّة» يقال إنها لرئيس الجمهورية! هل الرئيس محتاج فعلاً لحقيبة أو حقائب أو حصّة؟ هل بقية الوزراء ليسوا من حصة الرئيس أو ضدّ مشروعه، وهل مشروع الرئيس يتناقض مع مشروع الحكومة، وهل حصة الرئيس وزيرٌ أو كل الحكومة مجتمعة، وهل للحكومة سياسات متعددة أم رؤية موحدة تعمل مجتمعة على تنفيذها بإشراف رئيس مجلس الوزراء المسؤول دستورياً أمام مجلس النواب (كما ينصّ صراحة الدستور في مادتيه 64 و66)، فيما رئيس الجمهورية حَكَمٌ فوق كل الأطراف والوزارات والمواقع؟ أين الدستور من كل ذلك؟ ولماذا الإمعان بتسخيف عقول الناس وتجاوز الصلاحيات والأعراف؟
ليس الدستور وحده ضحية استخفاف مكونات السلطة به، بل مصالح الوطن والشعب أيضاً. ما يجري تَرَفٌ في غير محلّه يضاهي الوقاحة والجريمة المنظّمة التي تستدعي محاكمة بتهمٍ كبرى. الحكومة في كل بلاد العالم ما كانت يوماً باباً للانتهاب المقونن، أو مسلكاً للتعطيل أو حصصاً للتوريث، بل هي وسيلة مسؤولة لخدمة الناس، كل الناس وليس الصهر أو الحزب أو التيار أو المذهب أو الطائفة، إلا في دولة «كل مين ايدو الو» حيث الأمور معكوسة ومتفلّتة من كل قيدٍ أو ضابط.
لا الانهيار الشامل، وطوابير الإذلال، وصرخات الموجوعين أثّرت في منظومة الشرّ والفساد!! ولا تمنيات الكرسي الرسولي المتكرّرة، واستحضار قداسة البابا لمفردات الشر والموت والندم والارتداد عن الخطأ، ودعوته لفكّ ارتباط المنظومة بتجار الشرّ والموت، واستحقاق لبنان الحياة والسلام والهناء أثّرت في ضمائر المعنيّين!! ولا مبادرات الأصدقاء ورسائل المجتمع الدولي بضرورة انتهاج مسلك الإصلاح والشفافية والمصداقية، ووعودهم بالمساعدة فعلت فعلها!! أصلاً هل ما زالت الدول المانحة تصدق أن السلطة في لبنان قادرة على الذهاب نحو مكافحة الفساد وتنفيذ الإصلاحات؟
لا تجرّبوا المُجرّب
لا يمكن أن يحكم بلدٌ أو يستمر مع من يسعى كلّ يوم إلى الانقلاب على الدستور والطائف، ويلغي المؤسسات، ويعمل ضدّ السلم الأهلي ووحدة البلد والعيش الواحد، والأهم ضدّ ما يواجه لبنان من أزمات وانهيارات وتحديات، ولا يتحقق شيء من وعوده إلا إيصال شعبه إلى جهنم.
لا يمكن لمنظومة أفلست البلد، ونهبت المال العام والخاص، وخرّبت المؤسسات، وعطّلت القضاء، وقتلت الشعب أن تكون هي الحل.. قد تكابر، وهي تفعل ذلك، لإعادة انتاج نفسها، لكن تحقّق ذلك صعب جداً، لأسباب لا تتعلق بالضرورة بالمعادلات الداخلية التي تبدو حتى الآن أنها تميل لمصلحتها.
لا مناص من التسليم والإقرار بأن البلد مخطوف، شأنه شأن الدستور والدولة والمؤسسات، وكلّ حديث عن الإصلاح أو استقلاليّة للقضاء أو حلحلة الأزمات، هو مجرّد شراء للوقت، وتخدير للموجوعين، وعليه؛ على قوى منظومة الفساد والسلاح أن تقتنع أن صلاحيتها انتهت، أو شارفت على الانتهاء، وأن تُقلع عن المغامرة بأمن البلد، واستقراره الاجتماعي والمالي، لإعادة انتاج شرعيتها المفقودة.
وعلى المرجعيات الروحيّة والأحزاب الدينية أن تخفّف كثيراً من توهّم الوصاية على البلد والدستور والشعب والمؤسسات.
وعلى القوى المجتمعيّة الحيّة مراجعة الخطاب والرؤية والمشروع والآليات، ومقاربة سبل التغيير بواقعية وبراغماتيّة وتواضع وإصرار.
وعلى أشقاء وأصدقاء لبنان الاقتناع بأن المنظومة لن تسمح بنجاح أيّ مبادرة تَحُدّ من هيمنتها وفجورها، وعليهم أن يعرفوا أن مصلحتهم ومصلحة السلام الإقليمي والدولي، تتلاقى مع استقرار وسلامة هذا البلد.
وإلى أن تذلل العقد، القديمة منها والمستجدة، وتنجح المساعي، هل ثمة من يراهن على أن الحكومة العتيدة ستكافح الفساد، وتحقق الإصلاح، وتحلّ الأزمات؟