كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
سيكون إنجازاً استثنائياً أن تتقاطع المعطيات الإقليمية والدولية على نجاح التسوية في لبنان، فتولد حكومة جديدة، ويتوقف الانهيار عند حدود معينة، وربما يبدأ البحث عن حلّ. لكن الفشل يعني الكثير: فوضى وصراعاً طاحناً على السلطة يتحسَّب له كثيرون، وسيكون «على الحامي» لا «على البارد»، سياسياً واجتماعياً وربما أمنياً.
السؤال هو: في سيناريو الفشل، كيف سيتصرَّف كل طرف داخلي، بالتنسيق مع حلفائه النافذين في الخارج؟ وفي هذه الحال، أي مصير قاتم سيتوجّه إليه البلد؟
أساساً، ملامح المصير القاتم موجودة اليوم. والأصحّ هو أنّ لبنان يعيش سيناريو الفشل منذ أعوام عدّة. وقد انكشف هذا الفشل بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وقد بدأ يدخل مراحله المتقدّمة. ويُقال إنّ هذه المراحل قد تكون نهائية، إذ يصل الانهيار إلى قعرٍ لا مجال للهبوط إلى ما هو أدنى منه.
ولكن، المثير هو أنّ وضعية التصعيد والاهتراء والتحلّل قد تكون مطلوبة في أي حال. وفي اعتقاد البعض، أنّ القوى السياسية النافذة في الداخل، على ضفتي الاشتباك بين حلفاء طهران وخصومها، قد تلجأ إلى تعميم وضعية الفراغ والتحلّل في البلد، بهدف خلق واقع جديد على الأرض، يفرض نفسه على طاولة التفاوض. وبهذا المعنى، يكون الانهيار خياراً حتمياً خطط له هذا الفريق أو ذاك، وليس مجرد ترجمة عفوية للمأزق السياسي.
من المفارقات، أنّ الأميركيين والفرنسيين والعرب الذين مارسوا الضغط و»الفيتو» والعقوبات على لبنان طوال السنوات الـ4 الأخيرة مطالبين بالإصلاح، ساهموا في إهتزاز المؤسسات وخلق حال الإرباك في لبنان، معتبرين أنّها السبيل إلى تجفيف مصادر التمويل التي تغذي «حزب الله» وتُضعف نفوذ إيران في لبنان.
وفي أوقات معينة، شجّع هؤلاء على الاستقالات من المجلس النيابي، بهدف تهيئة الظرف لإجراء انتخابات مبكرة. كما أنّهم ما زالوا يتخذون موقفاً متشدِّداً في ملف تأليف الحكومة. أي، لا مشكلة لدى خصوم إيران في زعزعة التركيبة السياسية التي تغطيها وترتاح إليها في لبنان. وعلى العكس، يصبح ذلك هدفاً ما دام سيؤدي إلى إضعاف «الحزب» وإيران.
ولذلك، ليس مستغرباً أن يهدِّد خصوم «الحزب» بالاستقالة من المجلس («القوات اللبنانية مثلاً)، في اللحظة التي يهدّد فيها حليف «الحزب»، «التيار الوطني الحر»، بالأمر ذاته.
من مصلحة «الحزب» وحلفائه أن يستثمروا تَفكُّك المؤسسات وتعطيلها لإثبات فشل النظام، وتالياً لتبرير النقاش حول نظام جديد، بتوازنات طائفية ومذهبية وسياسية واقتصادية جديدة. وتحديداً، هذا هو الهدف من «المؤتمر التأسيسي» الذي لطالما جرى التلويح به.
فسقوط مؤسسات الحكم والإدارة، وإعلان فشلها، يستتبع البحث عن تصحيح للنظام الذي يديرها. وسقوط القطاع المالي والمصرفي يستتبع إعادة هيكلة النظام المصرفي وفق قواعد وتوازنات جديدة. وأما في الأمن والعسكر، فهناك تنظيم لقواعد اللعبة. ومن هذا المنطلق، تحرص القوى الدولية على حماية المؤسسة العسكرية.
إذاً، سيكون متسرعاً مَن يتوقع وقف التصعيد في لبنان لمجرد انطلاق المبادرات الخارجية. فقد يحدث العكس، وتتنافس القوى المتصارعة لفرض متغيِّرات تناسبها على الأرض، قبل الجلوس إلى طاولات التفاوض.
ومن هنا، يطرح البعض أسئلة عمّا تعنيه حماسة «التيار الوطني الحرّ»، في هذه المرحلة، للاستقالة من المجلس النيابي، في سياق خطة ترمي إلى تطيير النصاب الميثاقي من المجلس، وإسقاطه، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، بحيث يصبح تلقائياً خروج الرئيس سعد الحريري من لعبة التكليف والإتيان بشخصية أخرى.
تعمِّم أوساط «التيار» روايات مفادها أنّ حجم حصته في المجلس الآتي سيكون متقارباً مع حجم حصته الحالية، أي إنّه سيتمتع بمستوى الضغط السياسي إيّاه. وكذلك، ستكون حصة «الثنائي الشيعي» وسائر الحلفاء مضمونة في المجلس.
ولذلك، يستحق الأمر مغامرة الاستقالة ورسم خطة تبدأ بفرض انتخابات مبكرة تأتي بمجلس ذي غالبية مضمونة، ولا تنتهي في الانتخابات الرئاسية، إذ سيكون دور هذا المجلس حيوياً عندما تنتهي ولاية الرئيس ميشال عون الدستورية في تشرين الأول 2022.
هذه الفرضية تبدو وكأنّها منطقية. ولكن، عند التدقيق، يتبين أنّ خطة إسقاط المجلس النيابي بـ»الضربة الميثاقية القاضية» تحمل في طياتها أهدافاً أخرى. فعلى الأرجح، إذا سقط المجلس ميثاقياً (وهذا يعني استقالة «القوات» أيضاً)، فلن تكون هناك فرصة لانتخاب مجلس جديد في المدى القريب، لأنّ المعوقات التي تعترض العملية الانتخابية كثيرة وكبيرة.
ففي ظل انهيار مالي ونقدي مريع، مِن أين للدولة أن توفّر أكلاف العملية الانتخابية، فيما هي لا تمتلك أوراقاً لتقديم الطلاب امتحاناتهم؟ وبأي منطق ستسحب المبالغ أيضاً من الاحتياط الإلزامي، أي من ودائع الناس، فيما هي تتمنّع عن دعم أدويتهم والخبز والبنزين والاستشفاء والدولار الطالبي؟
ومن دون بنزين، كيف يصل الناخبون إلى الأقلام خصوصاً في الأقضية البعيدة؟ وكيف تعمل هذه الأقلام بلا كهرباء، وكيف ستتمّ عمليات الفرز وإعلان النتائج؟ وفي الأساس، هل هناك توافق على قانون الانتخاب الذي سيُعتمد؟
وفي المقابل، هل تدرك القوى الدولية الداعمة للتغيير أنّ أي انتخابات في ظلّ توازنات القوى القائمة حالياً ستكرّس نفوذ المنظومة الحالية، وقد لا تأتي بأكثر من 10 نواب أو 15 من المجتمع المدني وقوى التغيير، وفق تقديرات العديد من الباحثين؟
في أي حال، هناك شكوك حقيقية في إمكان إجراء انتخابات نيابية في المدى المنظور. ولذلك، الذين يلوّحون اليوم بالاستقالة من المجلس وإسقاطه يسعون إلى تحقيق أهداف أخرى. ويبدو مثيراً تلويح القوى المتصارعة بالاستقالة من المجلس: «التيار»، «القوات»، «المستقبل»… ويجدر التعمُّق في أهداف كل منها لإدراك مَن يناور ومَن يخطّط فعلاً لإسقاط المجلس.
وللتذكير، إذا سقط هذا المجلس ولم يُنتَخب مجلس جديد، فالانتخابات الرئاسية تكون قد طارت، لأنّ الهيئة الناخبة غير موجودة. وحينذاك، سينشأ صراع حادّ بين المعنيين حول «مَن هو الشرعي ومَن هو غير الشرعي». وسيطالب الجميع بالتمديد لأنفسهم.
وفي هذه الأجواء، ستبلغ المقايضات والمساومات مداها الأقصى، وتصبح عمليات البيع والشراء واردة على كل الخطوط في الداخل والخارج.