أدار الرئيس نبيه بري محركاته بأسلوب مختلف هذه المرة لإخراج الحكومة من «عنق الزجاجة»، بعدما تلقى دعماً علنياً وواضحا من السيد حسن نصرالله الذي وضع رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري أمام حلين لا ثالث لهما: إما الجلوس والتفاهم معا على التسوية.. أو التعامل بشكل جدي ومنطقي مع مسعى أخير يتولاه الرئيس بري، ومع مبادرة تعيد تدوير الزوايا لتمرير حكومة من 24 وزيرا، لا ثلث معطلا فيها لأحد، مع مرونة في تسمية الوزراء المسيحيين ومراعاة صيغة جديدة في تسمية وزيرين مسيحيين لوزارتي الداخلية والعدل.
وبدا أن هناك فرصة للنجاح بعدما قدم بري هدية مجانية ونقاطا سياسية للحريري في جلسة «الرسالة الرئاسية» على حساب عون، وانتظر منه رد الجميل من خلال الإقدام على تقديم مسودة جديدة «معقولة» إلى رئيس الجمهورية، وبعدها يمكن جوجلة الأفكار بناء على تعهدات علنية لـ «عون وباسيل» بعدم رغبتهما في الحصول على الثلث المعطل في الحكومة الجديدة، وهو أمر يراهن فيه بري على ضمانة حزب الله و«مونته» على حليفه في بعبدا.
لم يوفق بري في مسعاه حتى أمس، وبدا أن أزمة الحكومة مستفحلة في ظل مشكلة شاملة أكبر من الجميع وخرجت عن السيطرة.
لم يعد مهماً البحث في أسباب الأزمة الحكومية، وهل تعود إلى أزمة ثقة عميقة يصعب ترميمها بين عون والحريري؟! وهل تشمل «أزمة ثقة» بين عون وبري غير المؤهل لدور «الوسيط النزيه»؟! هل تعود إلى تداخل الاشتباك السياسي بين الملفين الحكومي والرئاسي، والى تشابك بين العناصر الداخلية والإقليمية؟! وماذا عن أزمة الثقة الدولية بالمسؤولين والسياسيين وشروط التدخل والمساعدة؟!
لم يعد مهماً البحث في سبب التعثر الجديد الذي أحبط أجواء إيجابية لم تدم طويلا ولا تستند إلى أساس متين: هل يكمن في دعوة النائب جبران باسيل إلى طاولة حوار وطني اعتبرها الحريري محاولة لمصادرة صلاحيات الرئيس المكلف تأليف الحكومة واستغربها بري طالما أن الطرفين الأساسيين يرفضان الاجتماع والتفاهم، أم هو بيان تيار المستقبل الذي شن هجوما عنيفا على «رئيس الظل» جبران باسيل الذي حول قصر بعبدا في عهد عون إلى مؤسسة حزبية تابعة له، بينما لوحظ إطلاق «جيش المستقبل» الإلكتروني لهاشتاغ مناهض للرئيس عون تحت شعار «رئيس جهنم» شارك في تغريداته الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري ومستشار الحريري الإعلامي حسين الوجه؟!
بعيدا عن كل هذه التفاصيل وبمعزل عنها، من الواضح أن هناك قناعة ثابتة لدى طرفي النزاع: قناعة الحريري أن عون لا يريده رئيسا للحكومة في ما تبقى من عهده، وقناعة باسيل أن الحريري لا يريد أن يشكل حكومة، أو أنه لا يقدر على التأليف ويتهيب الموقف ويفتعل الحجج والذرائع.
والنتيجة العملية لهذا الوضع أن لا حكومة برئاسة الحريري في عهد عون، وأن حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسان دياب مستمرة حتى إشعار آخر، وأن حكومة انتخابات تلوح في الأفق من دون أن يكون إجراء الانتخابات محسوما ومضمونا.
إنها مرحلة تهافت المبادرات الكبيرة والصغيرة، من المبادرة الفرنسية إلى مبادرة بري، إنها مرحلة الدوران في الدوامة والحلقة المفرغة.. إنها مرحلة «اللاشيء» والـ «لا» في كل شيء: لا حكومة، لا اعتذار، لا استقالات نيابية، لا طاولة حوار، لا رفع كاملا للدعم، لا بطاقة تمويلية، لا انتخابات مبكرة، وربما لا انتخابات في موعدها.
هذا الوضع الذي يقر فيه الجميع «بأننا دخلنا مرحلة الانهيار وننتظر لحظة الارتطام» بات أمام احتمالين وسيناريوهين:
٭ الأول: تضافر «الانسداد السياسي والانهيار الاقتصادي والانفجار الاجتماعي» لإنتاج وضع لا يطاق يصبح فيه الأمن مهددا ويفضي إلى حكومة استثنائية ذات وجه عسكري وتتولى قيادة وإدارة مرحلة انتقالية، بدعم من المجتمع الدولي الذي بات تركيزه محصورا بأمرين: حفظ الأمن ودعم الجيش.
٭ الثاني: تجميد الوضع على ما هو عليه من ستاتيكو سلبي، وبما يفضي إلى منع حصول الانفجار الاجتماعي الأمني والسياسي، ويؤمن الوصول إلى محطة الانتخابات النيابية المفصلية التي تطلق إشارة البدء لمرحلة انتقالية جديدة عنوانها تجديد الطبقة السياسية وإعادة إنتاج السلطة.
هذه المحطة التي تسبقها حكومة انتخابات وتليها حكومة إصلاحات.