كتب رلى موفّق في “اللواء”:
“لا حكومة” هي حصيلة المنازلة الأخيرة بين جبران باسيل بوكالته عن رئيس الجمهورية ميشال عون وبين الرئيس المكلف سعد الحريري. في الظاهر، يبدو الاشتباك السياسي على أنه اشتباك ماروني- سني على الصلاحيات الدستورية، لكنه في الباطن يرتبط بعاملين اثنين، الأول: استحالة التعايش بين عون- باسيل وبين الحريري ووصول الأمور إلى العداء الشخصي، زاد من حدته تمسك «الثنائي الشيعي» باسم الحريري وقطعه الطريق على إمكان الإتيان برئيس مكلف آخر حتى الساعة، وهو ما يحشر العهد وصهره في زاوية خوض المعركة وحيدين من دون الاتكاء على الحلفاء والاستقواء بهم. أما العامل الثاني، فيتمثل بالمستقبل السياسي لباسيل ومعركة رئاسة الجمهورية المقبلة، ذلك أن مجيء عون إلى سدة الرئاسة لم يحصل إلا على أسس تسوية رئاسية عقدت مع الحريري برعاية «حزب الله»، وسقطت في سنتها الثالثة بعد ثورة 17 تشرين الأول 2019، مع استقالة الحريري وذهاب الثنائي الحاكم عون- «حزب الله» إلى خيار حكومة حسان دياب من خارج الاجماع الوطني ولاسيما السني، وما عاد في الإمكان إحياء تلك التسوية على الأقل من جانب الحريري، وقت يعاني فيه باسيل عزلة أميركية وحتى غربية، ولم ينجح في انتزاع وعد من حليفه الشيعي على غرار الوعد الذي أعطاه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله لعون، والذي كان في حينها يخدم وصوله مشروعه الاستراتيجي وعطل لأجله البلاد لسنتين ونصف.
في القراءة السياسية، من الصعب الاقتناع أن لدى باسيل- الحريري القدرة على منع تأليف الحكومة لو أنه كان هناك قرار فعلي عند «حزب الله»، يعكس في طياته قراراً استراتيجياً لمحوره. فالأطراف الداخلية تتصارع في الوقت الضائع وتتواجه ويحصن كل منها موقعه، ولكن عندما يحين الوقت تسقط كل الذرائع من أمام التأليف، ونشهد تأليفاً للحكومة. وقد يكون التوقيت يسير على ساعة توافقات أو صدامات وشد حبال إقليمية. فحين أطل نصرالله في ذكرى التحرير وتحدث بلغة الجزم والحزم عن تأليف الحكومة، مساوياً بين عون والحريري وواضعاً إياهما أمام الخيار أو تسليم الدفة إلى بري. ظن البعض أن الساعة قد دقت لحكومة في لبنان يلاقي فيها «حزب الله» التصعيد الذي تتعمده، في هذه الآونة، إيران في ساحات نفوذها، والذي توجته بحرب غزة. وكان أن شنت حملة ضغط إعلامي على الحريري بأنه بات في وضع صعب وأنه أضحى أمام معادلة التأليف أو الاعتذار إذا لم يستجب.
ملجأ الحريري راهناً هو عين التينة، وبري عرّابه وراعيه، وهذا لا يزعج الحزب بل يريحه. فـ «الكل بصب بالطاحونة» وفق المثل الشعبي، فيما يتولى الحزب التواصل مع رئيس الجمهورية وباسيل الذي يمسك بالقرار عملياً. في كواليس عين التينة، كلام بأن الرئيس بري أنجز ما عليه في لقاء الغداء مع الحريري. المقصود بذلك أن بري استطاع أن يقنع الحريري بآلية يمكن أن تشكل اختراقاً لعقدة الوزيرين المسيحيين اللذين سينضويان ضمن حصة الوزراء الثمانية لرئيس الحكومة، إذ ان الجولات السابقة من المفاوضات أوصلت إلى اتفاق بأن الحريري هو من سيشكل الحكومة، وأن الحكومة 24 وزيراً على قاعدة الثلاثة أثلاث ( 8-8-8) لكل من عون والحريري و«الثنائي الشيعي» بعدما كان الاقتراح أن تكون من 18 وزيراً (6-6-6-). وتم الاتفاق على اسقاط مطلب الثلث المعطل لفريق واحد والذي كان يطالب به عون- باسيل، لكن بقيت عقدة من يسمي الوزيرين المسيحيين الباقيين من أصل 12 وزيراً في الحكومة واللذين سيكونان حكماً ضمن حصة الحريري.
ما حصل في لقاء عين التينة أن بري أكد بداية تمسكه بالحق الدستوري للرئيس المكلف بأن يسمي وزراء حكومته، في ظل الخلاف المحتدم بين الرئاسات الأولى والثالثة على الصلاحيات، لكنه اقترح آلية لتسمية الوزيرين المسيحيين، كمخرج للخلاف، تقوم على أن يسمي كل من عون والحريري أربعة أسماء، فيختار الحريري اسمين بالقرعة. تتحدث المعلومات أن الحريري وافق على الاقتراح. بالطبع شرط الحريري بحصة الثلث لعون أن يعطي تياره السياسي الثقة للحكومة. أبلغ بري شريكه في «الثنائي الشيعي» أنه أنجز مهمته مع الحريري. انتقلت المهمة إلى باسيل، فكان أن عقد لقاء في قصر بعبدا ضمن باسيل مع المعاون السياسي لكل من نصرالله وبري ومسؤول الارتباط في حزب الله وفيق صفا.
يقول متابعون إن وجود صفا في الاجتماع دليل أضافي على مدى رغبة نصرالله في الوصول إلى حل لتأليف الحكومة. حمل حسين خليل وعلي حسن خليل لباسيل الآلية التي توصل إليها بري ووافق عليها الحريري. بداية، استهول باسيل الأمر، ثم وافق على أن يتم اعتماد وزير واحد بتلك الآلية وبقي الوزير الثاني عالقاً- هو في واقع الأمر الوزير الذي يعيد إعطاء باسيل الثلث المعطل الذي لا يجد مناسبة إلا وينفي أنه يرمي إلى الحصول عليه. بالطبع، كان الاجتماع مناسبة لباسيل لإعادة القاء اللوم على «الثنائي» بأن تمسكهما بالحريري جعله يرفع من سقف شروطه. لم يلزم الرجل نفسه بإعطاء الثقة في مجلس النواب لحكومة الحريري. خرج الوفد من الاجتماع بنتيجة أن تقدماً جزئياً حصل في عقدة الوزيرين.
ما يسر به مطلعون على كواليس عين التينة أن كل ما تحقق في مسار المساعي يعتبر بمثابة مسلمات وثوابت لا رجعة عنها، وأنها تشكل أساساً لمتابعة المفاوضات من حيث توقفت عنده. وهي تالياً بمثابة إنجازات غير قابلة للذوبان. إنها سياسة قضم الإنجازات والثوابت التي تضاعف في نهاية المطاف موقع «الثنائي الشيعي» في المعادلة الداخلية- والذي بات هذا الفريق يسوق تسمية الـ «الثنائي الوطني» في إعلامه- ويحرف الضوء عن أساس المشكلة بأن لبنان يدفع ثمن انحرافه وسقوطه في فلك الهيمنة الإيرانية الذي أدى إلى قرار حصاره السياسي- المالي- الاقتصادي وإلى انهياره، وما عاد ينفع معه تأليف حكومة إلا إذا كانت وفق تفاهم عربي- إقليمي- دولي، وهو ما يبدو أن ساعته لم تدق… وقد لا تدق قبل نهاية العهد!