… كأنه «صندوق باندورا» اللبناني يَخْرج منه كل يوم عنوانٌ يثير «الذعرَ» في بلدٍ لم تَعُدْ «السيناريوات المُرْعِبة» حيال الأفق المسدود لأزمته الشاملة تخيف المعنيين بها المنخرطين، خصوصاً على جبهة تأليف الحكومة، بصراعِ «يا قاتِل يا مقتول» على أشلاء واقعٍ مالي واقتصادي ومصرفي ونقدي ومعيشي مدمّر ومؤسساتٍ مهشَّمةٍ لدولةٍ باتت أشبه بـ «هيكل عظمي».
ففي حين كانت تتناوَبُ على صدارة مسلسل البؤس اللبناني أزمات البنزين والكهرباء والدواء وسط تحذيراتٍ متوالية من تفكُّك النظام الصحي وقطاع الاستشفاء بعد انضمام المختبرات الطبية الى «ضحايا» الانهيار المالي، خطفت الأضواء «التشظيات المدوية» للقرار الإعدادي الموقت المثير للجدل الذي أصدره مجلس شورى الدولة وقضى بوقف تنفيذ التعميم رقم 151 الصادر عن مصرف لبنان الذي يسمح للمودعين بسحب أموالهم من حساباتهم بالدولار على سعر 3900 لليرة للدولار.
ومنذ إعلان «المركزي» الأربعاء الالتزام بالقرار (المُلْزِم له) في بيان وجّهه إلى المصارف، بدا أن هذا «الفتيل» قابل للاشتعال السريع، بعدما «ارتعد» صغار المودعين الذين وجدوا أنفسهم أمام خطر تعميق غرز «السكين» والإمعان في تدفيعهم الفاضح لتكلفة إطفاء خسائر القطاع المصرفي، المفلس مع «وقف الإعلان»، من جيوبهم وبـ «هيركات» مشين كان يوازي قبل القرار نحو 75 في المئة قياساً إلى السعر الحقيقي للدولار في السوق الموازية (13 ألق ليرة) فكيف إذا اعتُمد السعر الرسمي الذي ما زال 1510 ليرات.
وفيما كانت تتمدّد الضوضاء الكبيرة التي أثارها قرار «شورى الدولة» (نيته كانت ضمان حقوق المودعين وقيمتها الحقيقية وتَرَكَ التباسات بعدم ذكره بصريح العبارة وجوب دفْع الودائع بعملتها) ثم «المركزي» واللذان أحدثا غباراً كثيفاً مصرفياً وسياسياً وعكسا حال التخبط والعشوائية التي يعيشها لبنان، تزايدتْ المَخاوف ليل الأربعاء – الخميس مع ملامح انفجار شعبي بوجه هذا التطور الذي بدا أنه سيكون النقطة التي تطفئ كأس الغضب الكامن في نفوسٍ لا تتوانى عن تلقي الصفعات المؤلمة وكأن «منشار» الانهيار لا يأكل «صعوداً ونزولاً» إلا من… لحمها الحيّ.
ومع طوابير المودعين الذين «زحفوا» ليلاً إلى الصرّافات الآلية لسحب ما يحق لهم من أموال وفق السقوف المحدّدة لكل منهم قبل سريان قرار «المركزي» على وقع إقفال طرق بالإطارات المشتعلة في بيروت وعلى الأوتوستراد المؤدي الى الشمال (في انطلياس وجونية) والتعرض لبعض المصارف واستحضار مواقع التواصل استهدافاتٍ سابقة لبنوك على أنها «تحصل الآن»، استشعر المعنيون بمخاطر حدوث انزلاقٍ في الشارع قد لا يعود ممكناً وقفه، فخرج مصرف لبنان بعيد منتصف الليل معلناً أنّه سيتقدّم بمراجعة أمام شورى الدولة كي يعيد النظر بالقرار، في موازاة تسريب أن رئيس الجمهورية ميشال عون دخل على خط المعالجة وأن اجتماعاً سيُعقد قبل ظهر أمس، في القصر الجمهوري لسحب فتائل هذا الملف.
وهكذا كان، إذ عُقد الاجتماع بحضور عون وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس مجلس شورى الدولة فادي إلياس وتقرر على اثره «اعتبار التعميم رقم 151 الصادر عن مصرف لبنان ما زال ساري المفعول وستعمل المصارف بموجبه».
أما «التخريجة» التي استُعملت لتبرير تعليق سريان القرار الارتجالي لـ «شورى الدولة» بانتظار البت بأساس مراجعة الطعن فهي أن «المركزي» لم يتبلغ «صورة صالحة عن القرار المذكور للتنفيذ، وأن مصرف لبنان تقدم بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة تضمنت عناصر إضافية جديدة لم تكن واردة في الملف».
وبعد البيان الذي تلاه سلامة حول هذا التدبير، أكد «أن مصرف لبنان ليس مفلساً، وأموال اللبنانيين موجودة في المصارف وليس لدى مصرف لبنان»، موضحاً «أن المصارف لديها أموال لدى الدولة وأموال أقرضتْها للقطاع الخاص، وأموال خاصة مودعة في الخارج»، نافياً أن تكون أموال المودعين تبخرت «وقريباً سنبدأ بإعادة أموالهم» في إشارة إلى تعميم مرتقب بدفع ما يصل إلى 25 ألف دولار بالعملة الخضراء لكل مودع وما يوازيها بالليرة اللبنانية وفق سعر السوق.
ورغم أن احتواء هذه القضية أتاح للبنانيين «التقاط أنفاسهم» وسط اعتبار كثيرين أن «البُعد النفسي» جعل المودعين «يهلّلون» مجدداً لسعر منصة الـ 3900 بعدما كانوا يتذمّرون من عدم اعتماد أقلّه سعر 12 ألف ليرة الذي حُدّد لـ «منصة الدولار التجاري»، فإن إطفاء «حريق الـ 151» لم يمرّ دون انتقادات لما سُمي انتهاكاً فاضحاً لمبدأ فصل السلطات واعتُبر إشارةَ تدخلٍ في القضاء ولا سيما أن الدعوى ما زالت قائمة (بحق مصرف لبنان).
وجاء كل هذا الصخب فيما كان المسرح السياسي يشهد ما يشبه عملية «إحصاء الخسائر والأرباح» بعد «المعركة الأعنف» التي تجاوزت كل السقوف في سياق ما بدا أنه بات «حرب إلغاء» بين الرئيسين عون والحريري على تخوم أزمة تأليف الحكومة، والتي يُخشى ألا يطول الأمر، في ضوء مفاعيلها «الحارقة»، قبل أن يعلن رئيس البرلمان نبيه بري «رفع الراية البيضاء» في ما خص مبادرته التي صارت أسيرة عصْف الصراع على خط رئيس الجمهورية ومعه صهره النائب جبران باسيل – الرئيس المكلف والذي يتداخل فيه العنصر الشخصي مع السياسي حتى أصبح كثيرون يتحدّثون عن «عداء مستحكم» يصعب إخماده.
ولم تعُد أوساط مطلعة تُخْفي الاقتناع بأن ما حمَلتْه «الحرب الضروس» بالبيانات بين عون والحريري يعكس ما كانت «الراي» وصفتْه نقلاً عن دوائر عليمة بأنه «تكسير عظام» كلما طال سيصعب الفكاك منه، ويُرجّح أن يتحوّل جزءاً من عُدّة «شد العصَب» استعداداً للانتخابات النيابية المقبلة (ربيع 2022) التي تحوّلت العنصر الخفي في مأزق التأليف وحساباته إلى جانب الاستحقاق الرئاسي (خريف 2022) الذي يجعل من الصعب تَصَوُّر أن يطلّ عليه باسيل، المرشح «الجريح» أساساً بفعل العقوبات الأميركية وربما الأوروبية لاحقاً، مسلّماً «ورقة ذهبية» للحريري لترؤس حكومةٍ قد تتحوّل «رئاسيةً» بحال تَكَرَّرَ الشغور في موقع الرئاسة الأولى ولم يتم احترام موعد «نيابية 2022».
واستوقف الأوساط في هذا الإطار تسريباتٌ بدأت تُرَوّجُ لاستمرار أزمة التأليف سواء حتى نهاية عهد عون أو أقله حتى سبتمبر المقبل، من دون أن يسقط من الحسبان إمكان حصول تقاطعات إقليمية – دولية على «حكومة انتخاباتٍ» قد تفتح وحدها الطريق أمام اعتذارٍ «مدروس» للحريري يجنّب كأس استقالاتٍ نيابية يجري التلويح بها من ضمن لعبة «عض الأصابع»، وسط توقف الأوساط أيضاً عند دعوة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بعد لقائه عون أول من أمس لحكومة أقطاب سياسيين، وهو ما عكس بمعزل عن صعوبة التفاهم الداخلي على هذا الطرح وقبول الخارج به، نعياً ضمنياً للمبادرة الفرنسية كما مبادرة بري.
وفيما بدت بيروت أمس وكأنها في «استراحة محارب»، أكد رئيس الجمهورية في حديث صحافي أنه قدّم «كل التسهيلات اللازمة لتأليف الحكومة لكن رئيس الحكومة المكلف لم يراع مبدأ الشراكة الوطنية، فالتنازلات مطلوبة اليوم من الجميع وما نحتاجه هو وقفة ضمير، وفرنسا تسعى عبر رئيسها إيمانويل ماكرون إلى إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم على الإنقاذ في لبنان»، موضحاً «أن مرتكبي جريمة الانهيار المالي بعضهم ما زال في السلطة والزعامة الى اليوم وهم يستميتون للإفلات من العقاب»، معتبراً أن «المنظومة الفاسدة متماسكة ومتجذرة، سياسية وغير سياسية»،ً ومشدداً على «أن الاستحقاقات الانتخابية النيابية والبلدية في العام 2022 ستجري في موعدها».
وفي موازاة ذلك، أكدت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونِتسكا (تسلّمت مهماتها الثلاثاء) بعد جولة أولى من اللقاءات مع كبار المسؤولين شملت عون وبري ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزيرة الخارجية بالإنابة في حكومة تصريف الأعمال زينة عكر، الحاجة الملحة لإيجاد حلول للأزمات المتراكمة في لبنان «وهذا يتطلب وجود مؤسسات دولة فاعلة، بما في ذلك حكومة متمكنة وذات تَوَجُّه إصلاحي».
وقالت «إن لبنان في أزمة على مستويات مختلفة والشعب اللبناني يعاني للأسف أكثر فأكثر كل يوم. هناك حاجة ماسة للحلول وهي متاحة.
لبنان بلد ذو وعود وإمكانات هائلة، وأنا على ثقة أنه يستطيع البناء على ذلك من أجل التعافي وإعادة بناء مستقبل أفضل».
وفي معرض تذكيرها بالشراكة المستمرة منذ عقود بين لبنان والأمم المتحدة، جددت «التزام المنظمة بدعم لبنان وشعبه وسلامه وأمنه واستقراره وتنميته الاجتماعية والاقتصادية».
https://www.alraimedia.com/article/1538323/خارجيات/لبنان-ب-استراحة-محارب-في-صراع-يا-قاتل-يا-مقتول-حكوميا